نص اللاجئ (5): ستعود البَصرة إلى ذاكرتي

12 نوفمبر 2022
طفل عراقي يُحدّق من نافذة مكسورة لحافلة إبان الغزو الأميركي للعراق عام 2003 (Getty)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "نصّ اللاجئ"، والتي لم تُنشَر في كتاب، وهي من أهم أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


ستعود بصرةُ الخمسينيات إلى ذاكرتي مرّة أُخرى، بعد أن حوّل الاحتلالُ العراقي الكويت إلى بصرةٍ ثانية من النوع المهترِئ الذي أبدعته ثورة العام 1958، وما تلاها.
 
كان عبد الوهاب المسيري، الأستاذ في "جامعة الكويت"، قد حضر سريعاً بعد شهرين من وقوع الغزو العراقي ليأخذَ مكتبتَه وأشياءه، منهمكاً في نقاش "علمي" يحاول أن يقنع عدداً من الحاضرين بالضرورة التاريخية التي تقفُ وراء التهام دولةٍ كُبرى لدولةٍ صغيرة تُعتبر عبئاً على التاريخ. 

حدث هذا النقاش في بيتٍ كويتي دُعينا إليه لتناول طعام الغداء، وفي جوٍّ ارتبكَ فيه كلُّ شيء وتوقَّف زمنُه عند ساعةٍ محدَّدة محيِّرة؛ ساعةِ الاجتياح العراقي الذي لا تُمكن عقلنتُه بأيّ وسيلةٍ بجنوده وراياته وادّعاءاته.

ولأنّني وصلتُ إلى مكان الدعوة متأخّراً، فقد فاتني جزءٌ من النقاش، ولكن بدا لي واضحاً أن الأستاذ الجامعي كان يحاضر منذ زمن طويل أمام عيون مُندهشة وعقولٍ ذاهلة. لم يكن هذا الأستاذ يدرك تحديداً أن بين الحاضرين من فقد كامل ثروته، وأن بينهم من جرّدَه الاحتلالُ من وطنه وهويته، وباختصار لم يكن يشعر أنه أمام أُناس تقوّض عالمهم بالكامل. 

فقدتُ حذري كالعادة، ولم أدرك عمقَ الخطر، فعقّبت على محاضرة الأستاذ بتساؤلي عن معنى الكبيرة والصغيرة في ذهن المحاضِر، وما إذا كان يعتبر نظاماً مثل نظام البعث نظامَ دولة كبيرة أم نظام عصابة؟ وكيف ينظر إلى الكويت بوصفها عبئاً على التاريخ بانفتاحها وديمقراطيتها، ولا ينظر إلى الدكتاتورية التي هي الأحقّ بهذا اللقب من الكويت. فانتقل المحاضرُ فجأةً إلى فلسطين، ربّما لشعوره بأنني فلسطيني، فقلت له شيئاً ربما سمعه في حياته لأوّل مرة. 

قلت: "أنا كفلسطيني أقولُ لكم دعُوا فلسطين جانباً لم أعد أريدها. السوط الذى جلدتُم به كلّ الشعوب العربية، وأهنتموها وأفقدتموها كرامتها به ضعوهُ جانباً. أقول لك، وأيضاً كفلسطيني، أعطُوا الشعوب العربية كرامتها وحريتها وستعود فلسطين، أمّا هذه الأكاذيب، وأمّا هذه الأوراق التي لعبَتها كلّ الدكتاتوريات العربية على طاولة مطامِعها ومغامراتها فلستُ مستعدّاً لتصديقها".

كان الأستاذ المحاضِر في فلسفة التاريخ، والذي اقترح على نفسه خلال النقاش إجراءَ دراسةٍ "بنيوية" لفهم هذا التحوُّل التاريخي، مذهولاً أمام هذا الفلسطيني العجيب. 

وحتى أزيدَ ذهولَه ذكّرته بشيءٍ طريف، قلتُ له: "عشتُ في الخمسينيات في البصرة، وكانت آنذاك ثغر العراق الباسم، وكانت أوضاعُها تشبه كويت الثمانينيات. فمَن المسؤول عن إطفاء بسمة ذلك الثغر؟ لا أعتقد أنهم الكويتيون. اذهب إليها الآن، وانظر إلى شبه المدينة هذه قبل أن تتحدّث عن الدولة الصغيرة والكبيرة، وعبء التاريخ، وستكتشف أنّ العبءَ الضخم هو الذي أثقلتْ به الديكتاتورياتُ تاريخَنا الحديث".

العبء الضخم هو الذي أثقلتْ به الديكتاتورياتُ تاريخَنا الحديث

لم تكن العلاقة بين البصرة والكويت غائبةً عن طفولتي، ففي تلك الأيام أذكُر الليالي التي كان فيها الزوّارُ الغامضون القادمون من الأردن يستعدّون لرحلةٍ ليلية إلى الكويت عبر الصحراء، فيضعون الخناجر في أحزمتهم، ويلفّون وجوههم بالكوفيات، وينطلقون فجراً. 

كان المهرِّبون أعلاماً في تلك الأيام، ومَن ذلك الذي لا يعرف الغضبان الذي ترك عدداً من الذين تعهّد بتهريبهم إلى الكويت، طُعماً للموت عطشاً وجوعاً في الصحراء؟ ومَن ذلك الذي لا يعرف من هو محمد البهلوان المهرِّبُ الأحوَل الذي كان مُصارعاً قديماً على النمط التركي، والشهير بأنه أكثر المهربين أمانة! 

بصرةُ التهريب والمقاهي الرطبة، والأسواق الموحلة والملاهي، ومنتجع الريفيين ذوي العقال الضخم والشوارب الكثّة، ورائحة سوق تجّار الأقمشة العَطنة التي لا تُنسى، والسفن وشركات النقل والوساطة. هذه البصرة كانت شيئاً مختلفاً عن بصرة الثورة المُقفِرة التي خلَت من المتنزّهين والسفن وأغلقتْ مكاتبها، وهدمَتْ قصورها الفينيسيّة على الشاطئ، وتركَت شوارعها المتآكلة للمصادفات، وأُناسها للهرم في مشارب عتيقة وقذِرة، وكأن جائحةً حلّت بها، وأصابتْ كلّ شيءٍ بالتبلُّد، وحكمتْ على كلّ شيءٍ بالتفاهة والضحالة. 

في الأشهُر الأُولى لثورة تموز/ يوليو 1958، حمل محمد البهلوان قفّةً من سَعف النخيل مملوءةً بالمُسدّسات وجاء يعرض بيعَها على اللاجئين في "مقهى رجا"، الذين كانوا يتكاثرون فيه دائماً. وفسّرَ البهلوانُ عرضه بقوله إنها ضرورية لكلّ فرد، وبخاصة في أيام الفرهود. واستفسر بعضُ الحاضرين عمّا تعنيه لفظةُ فرهود، فأضاف البهلوان إلى معلوماتهم طرفاً من تاريخ هذه اللفظة في الذاكرة العراقية؛ الفرهود حالة ٌيندفع فيها الناسُ الى نهبِ بعضهم بعضاً، ويُعلَّق القانونُ، ويختفي أفراد الشرطة، ولا يعود أمام الإنسان سوى أن يُدافع عن نفسه وبيته بيده، وإلّا فرهدوه؛ أي نهبوه، وربما قتلوه. ولأن البهلوان يتوقّع مجيء هذا الفرهود الذي يشهدُه العراقيون بين عقدٍ وآخر، فقد وجد الفرصة مناسبة ليبيعَ اللاجئين هذه الأسلحة ليدافعوا عن أنفسهم وقت الحاجة.

فلسفة البهلوان لم تكن بعيدةً عن المنطق، وهو الخبير كما يبدو بحروب الشوارع بين الأشقياء، وبفرهودٍ أو اثنين مرّا في تاريخ العراق، وبخاصة أنّ هذه اللفظة محببّة إلى العراقيين إلى درجة أنّ بعضهم يُطلقها على ولده تيمُّناً.

وجّه العقل الفرهودي العراقيّين إلى الكويت بعد أن فرهد العراق نفسه

يقول لي هاشم الرجب، وهو أحد عشّاق المقامات العراقية، أنه شهد في حياته فرهوداً من هذا النوع بل شارك فيه. كان ذلك في أعقاب فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني (1941)، وعودة عبد الإله، الوصيّ على العرش، من الأردن على دبابة بريطانية، وبحماية نشامى وجنود من ذوي الكوفيّات الحمراء والجدائل البدوية، ويومها كما يقول الرجب بدأ اليهود يستهزئون بالعراقيين وفشل ثورتهم، فاندفعت الجموعُ ذات صباح يوم مُطلقةً نفير الفرهود الى متاجر وبيوت اليهود الأثرياء، ونزلت بها سلباً ونهباً، وكان الرجب بين النهّابين، إلّا أنه لسوء حظّه تدحرج في بداية أوّل غزواته عند مدخل مَخزن وأُغمي عليه، وحين صحا من إغماءته وجد المكان خالياً، فانسحب إلى بيته خاوي الوفاض من النهب ومن سدارته أيضاً. وفي ذلك الزمن انطلقت الأغنية العراقية الشهيرة من نوع المربع التي تنتهي لازمتُها المتكرّرة بهذا السطر: "حلو الفرهود كون يصير يوميّه"، أي أنّ الفرهود جميل وليته يصبح عادةً يومية!

وتختلط بصرةُ البهلوان والرجب ببصرةِ أواخر الثمانينيات التي اندفعت لفرهَدة الكويت. قال أحد الذين أُجبروا على النوم في المركز الحدودي صفوان الواقع بين البصرة والكويت ليلةَ أول آب/ أغسطس عام 1990، إنه صحا من نومه وتطلّع إلى الصحراء أمامه، فوجدها تعجُّ بالجموع، لا الجنود المنطلقين بشاحناتهم فقط، بل بالناس من مختلف الأزياء والألوان المُندفعين والمهرولين سيراً على الأقدام أو على الدواب نحو الكويت.

الفرهود ليس أمراً مستهجناً كما فهمتُ من تردُّد أصدائه في الذاكرة العراقية، بل هو فعلٌ من أفعال الحظّ أو الصُّدَف الجميلة. إنه أشبه بحظٍّ أَعمى يصطدمُ بكَ وأنتَ في أحد منعطفات العمر، ولا أشكُّ أن العقل الفرهودي هو الذي وجّه العراقيّين إلى الكويت، بعد أن فرهد العراق نفسه. 

كان أستاذ فلسفة التاريخ البنيوي جاهلاً بقيمة الموروث الشعبي، وجاهلاً بفلسفة الفرهود العراقي، فاخترع مصطلحاً من عنده كما يفعل دارسو الأحزاب العربية الذين يعكفون على قراءة البيانات والتصريحات اللفظية، لا البُنى التحتية لهذه الأحزاب التي نشأت على مفاهيم الفرهود وأمثاله، مثل: مفهوم الشقاوة أوالفتوة في التاريخ العباسي. 

ربما تفتح دراسةُ هذا المفهوم الأخير صفحةً  كاملة مجهولةً في تاريخ الأحزاب العراقية، شهدتها أزقــة بغداد والبصرة. فقد شهدنا - نحن اللاجئين الصغار - انبثاقَ تحوّلٍ عجيب في بُنية الأحزابِ العراقية، وربما يفسِّر هذا التحوّلُ ما حدث بعد 14 تموز/ يوليو 1958. فقد توالدت ظاهرة طريفة، وهي احتواءُ الأحزابِ لمن يُطلق عليهم اسم الشقاوات أو الأشقياء الذين يكسبون عيشهم بعضلاتهم في الأحياء المُغلقة، إمّا مستأسدين على الفقراء، أو مبتزّين للأغنياء.

ورأينا عدداً من هؤلاء المشهورين عادةً يتحوّل بين عشية وضحاها إلى شيوعي أو بعثي أو قومي، ويأخذ بقيادِ مجموعاتٍ وظيفتها الوحيدة هي خوض المعارك مع الأحزاب المنافسة، إمّا لتخريب مهرجاناتها، أو قتل البارزين بين أعضائها. وكان بعضهم يبحث عن المعارك متعمّداً، فيسير في الشارعِ متحدّياً، ممسكاً بيده مُسدساً ملفوفاً بورقة صحيفة. 

وفي ذلك الزمن انطلقت الأغنية الشهيرة "حلو الفرهود كون يصير يوميّه"

أعتقد أن هؤلاء الأشقياء لم يتوقّفوا عن التناسُل، ولا توقّفت الأحزابُ عن الاستناد إلى عضلاتهم، رغم اختلاف تسمياتهم هنا وهناك، فهم في البصرة الشقاوات، وهم في بيروت القبضايات، وهم في القاهرة الفتوات.

وقد رأينا فيما بعد كيف أن هؤلاء الشقاوات لايتوقّفون عند حدِّ كونهم أدواتٍ يوجّهها قادةُ الحزب أو المنظّمة المهذّبون، أصحاب النظّارات الطبيّة والمظهر اللطيف، بل يتجاوزون هذا الدور فيلتهمون هؤلاء المهذّبين، ويحلّون محلّهم، ويرتدون ثيابهم ويصطنعون لهجتهم، ويأخذون من مواقعهم هذه بالتهامِ بقية منظومة الحزب أو المنظمة الساذجة التي لا تلاحظ أن عيون الجدّة أصبحت واسعةً بشكل غير طبيعي، وأن أنفها أكبر من المعتاد، وأن لها أنياباً بارزة!

قد يكون هذا مجازاً شعرياً، إلا أنه يلمس عمق الواقع المأساوي للأحزاب العربية المتغلّبة التي شاهدناها تصعد إلى السلطة هنا وهناك، وما إن تنتهي ذئابها من التهام مهذَّبيها ومثقّفيها، حتى تجرَّ بقيّتهم بالأطواقِ وراءها ليهذروا وقت الحاجة بطموحات الأمّة العظيمة ومستقبلها المشرق. لو آمنَت فقط وذابت بمخلّصها العظيم، القائد الضرورة، الذئب، الذي حلمت به البشرية منذ عصر الكهوف، وصولاً إلى عصر الصاروخ.

لو كان محمد البهلوان حيّاً، لقاده ذكاؤه إلى حمل سلّته بمسدّساتها وجاء إلى الكويت، يعرض على الكويتيين المُسدّسات محذّراً إيّاهم من الفرهود والمفرهدين، الذين جعلهم الأستاذ البُنيوي صُنّاعاً للتاريخ، ولم يعرفهم حقاً إلّا البهلوان الأحوَل صاحب السلّة. 

المساهمون