نصف قمر في سماء زرقاء

06 مايو 2023
من سلسلة "بريد البلاد" ليحيى الشيخ، 2020
+ الخط -

ليت سرب طيور الحجل لم يغادر الخلاء القريب من شرفتي!
لم ألمحه حين حطّ على الأرض الحجرية - يسميها المحلّيون، "القِرْوِدْ" -
كنتُ أرى ذيول الحجل، تلمع تحت شمس أغسطس، كأنّها قوارب صيد رومانية
ثم فجأةً ارتجّت الأرض بصوت رصاص رشاشة الأغراض العامّة،
حلّق السرب عالياً وطار صوب شرقٍ لم ينجح أبداً في اللحاق بظلّه.

ماذا يفعل نصف قمر في سماء زرقاء؟
يعزف على الكونترباص معزوفة "عالي الدرْجات"
أليس هو الذي أخذ الأحمر إلى خلوة الوليّ؟
نعم! وأخذ أيضاً الأخضر الزيتوني إلى عرجون بلح في خزانة العروس
كيف إذن دخل المدينة من باب المقبرة؟
من عادته أن يتوقّف عند كل قبرٍ، يأخذ منه ساق عشبة أو زهرة نضرة
كان أيضاً يقول: إن أردتَ تيناً بمذاق لا يشبهه شيء، اقطفه من تين مقبرة.

العزف على البيانو مثل القفز على حجارة الجبل
هذا ما بدا لي وأنا أتأمّل حبّات التوت البيضاء والسوداء
حسبي أن أكون هناك، عند الحافّة، 
الموسيقى تكتمل دائماً عند الحافّة!
ظلال تنتشر، طَرْقٌ على القلب يشتدّ، 
ذلك شجن العازف عائداً إلى البيت وحيداً.

الغابةُ عودٌ أخضر في فم طائر
الطائر يميل في الهواء كما تميل الورقة
الورقة تهتزّ بين ثمرة وثمرة
الثمرة دائرية إذا استدارت الفصول
مستقيمة إذا استقامت الفصول
الفصول أفراس تصهلُ في صحن الشمس
الشمس تبحث عن صباحها في بيت الحارس
الحارس نعسان، يهرب منه الصباح
الصباح يأخذ البقرة إلى المرج
المرج رفيق القنفذ
القنفذ رفيق الليل
الليل توأم السماء
السماء مبرقشة بالخرّوب
الخرّوب أبدية مخاتلة.

سوف أبحثُ عن وسيلة أذهب بها إلى عُمان.
لن أركب سيارة أجرة
ولن أرافق البدو، العالقين في البرزخ.

(أليس: 
الغربال تعويذة صقر،
النسيم غواية حديقة،
المجاز سير في خطين متعاكسين،
والأسئلة تقطرُ من أصابع الرغبات؟)

سوف أحرصُ على الوصول ببذلة بلون الزعفران الأفغاني، بوردة صفراء في عروة سترتي،
وسنبلة طويبيّة داخل جواز سفري.
سوف أحرص على المبيت ليلة أو ليلتين في ظفار
سوف أحرص على ألّا أجرحَ نوم صحار، أن أمسّد بيديّ جذوع أشجارها البرية، وأشرب ما طاب لي من نبيذ المكان الوحشيّ.

(ويحَ قلبي! صلالة على بعد فرسخين
ويح قلبي! كلام الفلج ذائبٌ في الحكايات.
سألتُه: هل ستتبعني إلى آخر النهر العريان؟
قال: أيّ نهرٍ ونحن في الصحراء!
النهر الذائب في الحكايات القديمة
النهر الذي شقّ قميص الرمل، وغاب في النسيان.
ما أكثر الشعراء في الحدائق العامّة!)

أنا الغريب، لستَ في حاجة لسيفٍ عالقٍ في صخرةٍ كي أُثبت أنّي الملك.
حسبي أن أتمدّدَ على ركّابة الدكّان في سوق نزوى، أن أطمع في أن تراني السيّدة، من وراء شبّاكٍ سميك.
أنا الغريب، انتبه، أنقرُ بأصابعي على النوافذ المغلقة، لا أتركها سجينة مفاتيح البيانو. الفرشاة أيضاً طريق للنور، أمّا الشفاه، هي أليغرو حائرٌ بين الرغبة والاستسلام.

صباح ربيعي آخر
أجلس في مشرفي المطلّ على بحر صبراتة، تأتيني أغنية الطائر العاشق عذبة جليلة
من مكاني أمام لوحة المفاتيح ألمح صديقتي بومة الحقول الشهباء واقفة قبالة الشمس على حجر تركه صاحبه الذي رحل إلى بحيرة كومو
أفكّرُ كيف يكون شكل القصيدة وما الذي يهبها جِدّتها ونصاعتها وغرابتها وجنونها؟
أفكّر هل ازدحمت طريق الشعراء أم هي فارغة إلّا من سراب يلوح ويختفي؟
أفكّر في صحراء هدّها التعب والألم؟
سأتوقّف الآن وأتابع قارب الصيد الصغير يقطع سطح البحر، خلفه خيط أبيض رقيق وناعم كقرن بازلاء.


* شاعر ومترجم من ليبيا

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون