نادي القصة بتونس: عودٌ إلى مواجهات التأسيس

05 سبتمبر 2022
المرجعيات المختلفة حاضرة في الثقافة التونسية، كما هنا في مكتبة بالعاصمة، 2020 (Getty)
+ الخط -

وُضِعت اللّبنات الأولى لـ"نادي القِصّة" بتونس في تشرين الأول/ أكتوبر 1964، على أرضيّة خلافاتٍ جوهريّة بين الأعضاء المؤسِّسين مثل: العروسي المطويّ، مصطفى الفارسي، محمد صالح الجابري، أحمد الهرقام، حسن نصر، وجلّهم قد ارتحلوا عن عالَمنا، وعزّ الدين المدني الذي أدلى لنا بهذه الشهادة الحيّة، منذ أيامٍ قليلة، فَحرصنا على توثيقها.

أكّد لنا الأديب الثمانينيّ أنّ هذه الخلافات طاولت أساسًا أهداف النادي ومُنطلقاته ومناهج الكتابة الإبداعيّة، فقد كان السُّؤال الرّئيس الذي حرّك هؤلاء الأعضاء، وجلّهم من شباب الاستقلال، يتعلّق بنمط العلاقة بِالتّراث الأدبي العربيّ، حيث دعا ذوو الخلفيّة الزيتونيّة الدينيّة منهم إلى استلهام الأساليب العربيّة الفصيحة وآليات السّرد التي نضجت في فنّ المقامة وجِنس "الخبر"، التاريخيّ منه والمتخيّل، والتي طوّرها كِبار النّاثرين القدامى مثل الطبريّ وابن المقفّع والأصفهانيّ وغيرهم. 

وأما الأعضاء الذين يحملون ثقافةً مزدوجة، ولا سيما أولئك الذين تشرّبوا نصوص الحداثة الغربيّة في مختلف تيّاراتها ومواردها، كتيّار الرواية الجديدة الذي قاده روب-آلان غرييي ونتالي ساروت، فقد دافعوا عن استلهام التّجارب الأجنبيّة لاجتراح نصوصٍ تونسيّة في روحها، لكنْ فرنسيّة في شكلها السّردي وأبنيتها القصصيّة، تحمل أثرَ الابتكار الوليد وتقطع مع التقليد.

نقاش أدبي يأخذ شكل سجال بين عناصر التقليد والحداثة

وطاول الخلافُ، تبعًا لذلك، تسميّة المجلّة الفصليّة التي بدأ النادي بإصدارها منذ 1966، وهي بعنوان "قَصَص" (التي ظلّت تُصدر أربعة أعدادٍ سنويًّا حتى بلغ المنشور منها أكثر من مائة وستّين عددًا). وسَببُ الخلاف المرجعيّات الوعظيّة والأسلوبيّة لمصطلح "قَصَص" القرآنيّ، الضّارب في سِيَر الأنبياء والرّسل والمشحون بصور البلاغة المهترئة. 

كما كان لسجلّات القول ولغة السّرد نصيب الأسد من السجالات في المشهد الثقافي التونسيّ الذي غدا هذا النّادي الفتيّ يَختزله، والذي كان متراوحًا بين المرجعيّات الكلاسيكيّة وصيغ الحَكْي المُستحدثة الشائعة منذ نهاية القَرن التاسع عشر، مثل المَسرح والقصّة القَصيرة والرّواية، وهي أشكالٌ مُبتكرة لم يكن لها جذورٌ واضحة في الإرث النثريّ المحليّ. 

وهكذا، دارت سجالات التأسيس حول ثنائية الشكل والمضمون الجديديْن القادريْن على استيعاب ما شهدته تونس من تحوّلات جذريّة، بُعيد جلاء الاستعمار الفرنسي (1951) وتلاشي نظام حُكم البايات الحُسينيّين (1705 - 1956) وقيام نظام "جمهوريّ" تعضده أيديولوجيّا تقدميّة قادها الحبيب بورقيبة وحِزبُه، وآمَن بها هؤلاء الكتّاب الصّاعدون، لا سيما أنّ النماذج القصصيّة كانت آنذاك محدودةً، إذ لم تلمع بعدُ وجوهٌ شهيرة، مثل الدّوعاجي وخريّف. 

فظلّ هؤلاء القصّاصون الشبّان يبحثون عن نمط تعبيريّ مُبتَكَرٍ، يقطعُ مع السّرد الأخلاقيّ والسّياسيّ المباشِر، ولا يذوب في النماذج المصريّة أو العراقيّة التي كانت حاضرةً بقوّة كأمثلة عُليا لنصوص سرديّة، تعتبر نفسها أفضل محاكاة لتحوّلات التّاريخ. وكان الرّهان المقابل ألّا تذوب هذه النصّوص في تجارب الفرنسيّين الذين اطُّلِع على إنتاجهم في لغتهم الأصليّة وأساليبهم المغايرة.

لم يطل الزمن حتى تمزّق النادي وأسس منشقّوه حركة أُخرى

وتناول السجال أيضًا الاختيار بين الفصيح أو الدّارج، أو الجمع بينهما بحثًا عن التعبير الأمثل لشخصيّات المجتمع التونسي بكل فئاته وطبقاته، التي باتت تصوّره القصص القصيرة والرّوايات، دون أن يُسفر النّقاش عن أيّ رأيٍ غالبٍ راجح. 

ورغم ما شابَ ميلاده من سجالاتٍ، بُعثَ نادي القصّة حينها وازدهرت جلساته الأسبوعيّة. إلّا أنّ ردّ "الحَرس القديم"، وعلى رأسهم الهادي العبيدي (1911 - 1985) أديب شهير من جماعة "تحت السور"، كان سلبيًّا للغاية، حيث اتّهم، في مقال صحافيٍّ، هؤلاء "المَفْرَخَة" (والعِبارة لِمُحدّثي) بأنّهم لا يتوفّرون بعدُ على رصيدٍ كافٍ من الثقافة لتجديد الفنّ القصصيّ التونسي. فاستمرّت هذه النّقاشات طيلة مراحل التأسيس تلك التي استعادها مُخاطِبي عزّ الدين المدنيّ بشيء من الحنين والحماسة، وكأنّه لا يزال يخوضُ معاركَها ويتذكّر مُطارحاتها. 

لا ندري لمَن مالت الكفّة. والظّاهر أنّها رَجحت لصالح المُتشبّثين بالاتّكاء على نُصوص التّراث ووجوهه التمثيليّة وأساليب الكتابة السائدة لديْها. وبما أنّ هذه الجدالات كانت جوهريّة لا عرضيّةً تمسُّ المفاصل التأسيسيّة لــ"نادي القصّة"، فقد اعتَملت بمثابة "بذور الانهيار" التي وصفها هيغل. فلم يطل الزّمن حتى انفجر "النادي" من الداخل وانشقّ عزّ الدين المدني وبعض رفاقه لتأسيس حركة "الطّليعة" التي كانت أجرأ في القطع مع القديم وأجسر في استلهام قيم الحداثة. 

ومع ذلك، ظلّ النّادي يواصلُ أعماله إلى اليوم، إبداعًا ونقدًا، لكن مُفتقرًا، ربّما، إلى جذوة التطلّع وقلق الجدّة المَجهولة والسؤال الحارق، خَتَم مُضيفي، عزّ الدين المدني، بابتسامةٍ راضية وودّعني.


* كاتب وأكاديمي تونسي مُقيم في باريس

المساهمون