منصور الهبر في "أعمال على الورق": الفنّ وهو يتشكّل

14 يوليو 2024
(من المعرض)
+ الخط -
اظهر الملخص
- معرض منصور الهبر في "غاليري آرت أون 56" يعرض لوحات في مراحلها الأولية التمهيدية، مما يخلق تجربة بصرية غير تقليدية تُبرز قوة التعبير والدينامية الداخلية.
- المعرض يُركّز على الأعمال الورقية، حيث تحمل التخطيطات الأولية موازنة دقيقة بين التخطيط والفراغ، مما يجعلها تبدو كلوحات كاملة.
- التفاعل بين الفنان والمتفرج يُحوّل المعرض إلى حوار مستمر، مما يجعل الرسوم تبدو كجزء من لوحة أكبر أو جملة متكاملة، ويُضفي على المعرض حياة وحيوية مستمرة.

معرض منصور الهبر، الفنّان اللبناني، في "غاليري آرت أون 56" البيروتي، مفاجئ بحقّ. المفاجأة فيه أنّنا لا نُشاهد لوحات نهائية، أي لوحات في نسختها الأخيرة، بل نشاهد اللوحات في عملها الأوّلي التمهيدي، في نُسخها الأُولى. لا نجد بسرعة كلمةً للتعبير عن ذلك، قد تُناسب كلمات كروكي أو تخطيط أو رسوم، لكنّ الهبر يتوقّف هنا، ليس في البروفات الأُولى فحسب، ولكن في المادّة المستعملة لها أيضاً، في الورق التي تمّ التحبير عليه، الورق الذي هو ورق فعلاً، أي أنّه من دون إطارات ومن دون لوحات كاملة.

إنّه الأوراق نفسها، وقد انتظمت في مجموعات. هي أحياناً كثيرة، بل في أكثر الأحيان تُحافظ على الورقات النصفية التي دار العمل عليها، أوراق بحجم الكفّ وليست مؤطّرة. الورقة تبقى كما هي، تنضمّ إلى مجموعة، وقد عُلّقت بمشبك جنب زميلات لها، وألّفت معها مجموعة. لا نفهم بادئ ذي بدء لماذا تكوّنت منها، وما الذي جمعها بعضها إلى بعض، وأفرد لها حيّزاً مستقلّاً. سؤال سنجد بعد تأمُّل وإمعان جواباً عنه.

لكن المعرض ورقي، بما في ذلك اللوحة الوحيدة المؤطّرة في صدر غرفة في الصالة. حتى هذه يُصرّ الهبر على أنّها، هي الأُخرى، من ورق مُعَدّ لهذه التجربة. في النهاية نحن في معرض ورقي بالكامل، معرض تخطيطات أُولى، مع أنّ كلمة تخطيط لا تفي المعرض قيمته، وقد تبدو، على نحو ما تقليلاً لها، أو ابتساراً وحُكماً ثانوياً. الحقيقة غير ذلك تماماً، إذ إنّ ما في هذه النسخ الورقية من أعمال قويّ، لدرجة أنّ التخطيط على ورقة بحجم الكفّ يملك، في الغالب، بناء وموازنة داخلية، وملوّنة شبه خفية، قبالة الرسم الخطي، بما يوحي فوراً بلوحة كاملة، خلف التخطيط الماثل.

في الأسئلة وجواباتها عملٌ مشترك بين الفنّان والمتفرّج

لنقُل إنّ هذه الورقة الصغيرة تحوي ما يمكن اعتباره تحفة صغيرة، إذ إنّ ما في العمل من دينامية داخلية، من موازنة دقيقة بين التخطيط والفراغ، بين البياض والخطّ، بين اللون والرسم، هي موازنة تُخفي وراءها مشروعاً كاملاً. هكذا لا نبتهج فقط بالكروكيات التي بقيت على حركيتها، على طزاجتها، وعلى قوّتها التعبيرية، بل نجد أيضاً في هذه الرسوم نوعاً من لوحات أُولى، من تعبير بازغ، من بداية لافتة ومثيرة، بحيث إنّ المعرض بكامله يتواصل حولنا، بدرجات عالية من التعبير والانبناء والحياة.

يمكننا، في معرض "أعمال على الورق"، أن نتساءل عمّا يجعل الرسم ينضوي في مجموعة مفردة على الجدار، ماذا هناك بين المجموعات، وبين الرسوم المجموعة الواحدة. هنا نتبع إرادة الفنّان وخياراته. يجعلنا هذا نتساءل عن السرّ في ذلك. إنّه عمل نقدي يوحي به الفنّان ويمارسه قبلنا، الفنّان هكذا يضعنا أمام تساؤل علينا أن نجد جواباً عنه، إذ إنّ في تلك الأسئلة وجواباتها عمل مشترك بين الفنّان والمتفرّج. نقف أمام مجموعة ما نتصفّح رسومها، ولا أقول لوحاتها. لكنّنا لا نلبث ونحن نتأمّل في الرسوم والتخطيطات أن نستخرج علاقات بين الرسوم. نجد أنّ بين هذه الرسوم علاقات فعلية، نكاد معها أن نحسّ أن المجموعة تحقّقت في وقت واحد، أو ذوق واحد ورؤية واحدة. نحسّ ونحن ننتقل بين الرسوم والتخطيطات، بدرجة من التسلسل والتوالي والاتصال. هكذا نرى في كلّ مجموعة نوعاً من ركيزة واحدة، من أصل عضوي مشترك، ولو انتقلنا إلى خارج التشكيل، لقلنا عنواناً مشتركاً ودينامية واحدة.

بحيث إنّ الرسم، بإزاء زميل له، يكاد يشكّل كلمة، تتتابع في رسوم أُخرى، كلمة بعد كلمة، هكذا نشعر أنّ المجموعة في ما بينها، تكاد في تواليها وتواصلها وتسلسلها، تُشكّل لوحة واحدة. لو عدنا إلى مثل الكلمة جنب الكلمة، لقلنا إنّ المجموعة تكاد تُشكّل جملة واحدة. هكذا يمكننا، ونحن ننتقل في معرض منصور الهبر، أن نشعر بفرح الفنّ وهو يتحرّك، وهو يتشكّل، كأنّنا ندخل مع الرسّام إلى محترفه، وكأنّ اللوحة تتكوّن أمامنا. في كل ذلك الفن لا يزال يمرح ويتنفّس.
يُمكننا القول إنّ الرسوم تحكي، إنّ وراء التخطيطات أخباراً وسيراً وحيوات. إنّنا في المعرض محاطون بهذا الهمس، بهذه الحكايا التي تمتد وتتسلسل، من مجموعة إلى مجموعة، يتحوّل المعرض معها إلى سياق واحد، إلى رواية لا نعلم متى تبدأ ومتى تنتهي، لكنّنا لا نتوقف عن سماعها ومتابعتها.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون