"كلُّنا خرجنا في أدبنا من معطف غوغول". هذه هي العبارة التي تُنسب مرّة إلى دوستويفسكي، ومرّة إلى تورغينيف، في القرن التاسع عشر. ولعلّ مجرّد نسبتها إلى أحد هذين الكاتبين يكفي كي تكون شهادة على قيمة هذه القصّة وأثر كاتبها في تاريخ الأدب الروسي.
"المعطف" واحدة من أكثر القصص تأثيراً في النفس البشرية، وقد اشتُهرت في العالم كلّه وتُرجمت إلى معظم اللغات، ومن حسن الحظ أنها ترجمت إلى العربية أكثر من مرّة. وهي تضعنا أمام واحدة من المهام الصعبة في تاريخ الأدب: ما الذي يجعل منها تحفة أدبية خالدة تعيش وتنتشر في لغات الأرض كلّها تقريباً؟ وما الذي جعلها مهمّةً أساساً لأدب كبير مثل الأدب الروسي، وماذا في شخصية أكاكي أكاكيفيتش غير الخوف والرضوخ والذلّ كي يصبح بمثل هذه الأهمّية الإنسانية العظيمة، أو كي يتحوّل إلى واحدة من الشخصيات المشهورة في تاريخ الأدب مثل دون كيخوته، أو لير، أو هاملت، أو كارامازوف، أو غوريو، أو جوليان سوريل؟
إنه ذلك التعاطف الإنساني العميق الذي يتمكّن غوغول من ترسيخه لدى القارئ الذي يجد نفسه وقد تقمّص شخصية هذا الموظّف البسيط الفقير، الذي يتعرّض لسرقة المعطف الذي اشتراه بعد أن حرم نفسه من كلّ المتع، ولم يهنأ به أكثر من يوم، بينما قوبل من ناحية البوليس بازدراء ولا مبالاة أوديا بحياته.
لا يستطيع قارئ "المعطف" التخلّص من تأثير مصير بطلها عليه
ترجّح الجملة التي افتتحتُ بها المقالة أن قصّة غوغول كانت هي الأساس الذي بُنيت عليه القصّة القصيرة في الأدب الروسي، غير أن شخصية أكاكي أكاكيفيتش سوف تكون النموذج الذي يستقي منه كثيرٌ من كتّاب القصّة الكبار في العالم ملامحَ شخصياتهم، حيث نرى ذلك الشخص الضعيف المغمور الذي يرزح تحت وطأة ضعفه وعجزه من جهة، وقسوة وانعدام الرحمة في الواقع الذي يعيش فيه، من جهة ثانية.
لا يستطيع أيّ قارئ لهذه القصة أن يتخلّص من تأثير المصير الذي آل إليه هذا الرجل المقهور، ولعلّ طريقة كتابتها الساخرة ــ التي تبدو من حيث الظاهر عديمةَ الرحمة تجاه الشخصية الضعيفة والمستسلمة لقوّة القهر ــ قد ساهمت هي أيضاً في زيادة أثرها. غير أن درس الأدب الإنساني ليس هنا وحسب، بل في ذلك الإجماع بين الكتّاب الروس على قيمة غوغول في الأدب الروسي، وغوغول أوكرانيٌّ في الحقيقة، وقد انتقل للعيش في روسيا بعد أن تجاوز سنّ الشباب، وله مجموعة قصصية شهيرة عن الحياة في أوكرانيا هي "أمسيات في قرية قرب ديكانكا".
لكنّ الكتاب الروس في القرن التاسع عشر اعتبروه كاتباً روسياً، وقال بيلنسكي إنه يقف على رأس الأدب الروسي، ومدحه نيكراسوف وتشرنشيفسكي. ويمكن لأدب غوغول أن يكون هجاءً مريراً لكلّ الفساد الرسمي الذي كان يسِم روسيا، مقابل الفقر والذلّ الذي عانى منه شعبها، وهو الأمر الذي جعل الحكّام ضدّه، والكتّاب والفنّانين إلى جانبه.
والظاهر اليوم أن الحكّام لا يزالون ضدّ غوغول، وهم يمزّقون المعطف في بلاده، ولم يصل إلينا بعدُ ما الذي يقوله الكتّاب والفنّانون الروس عن المذبحة التي تُرتكب هناك.
* روائي من سورية