محمد الأسعد.. نتذكّر فنحيا

23 سبتمبر 2021
(محمد الأسعد، العربي الجديد)
+ الخط -

يكتب محمد الأسعد - الذي غادر عالمنا أول أمس الثلاثاء عن سبعة وسبعين عاماً (1944 - 2021) - في رواية "أم الزينات تحت ظلال الخروب" على لسان بطله سليم الفحماوي "إنهم يخشون عودة الموتى، أو صدى الذاكرة. إنهم يذكرون جيداً كوابيس أيّامهم الأولى في قرانا الخالية حين جاؤوا بهم من المغرب والعراق وأوكرانيا وإيران ليسكنوا بيوتاً لم يبنوها وأرضاً لم تطأها قدم سلف من أسلافهم، فأحاطت بهم الكوابيس؛ كوابيس الفلاحين الذين قتلهم جنودهم في مضافاتهم وعلى أبواب بيوتهم وفي طرقات قراهم بين صخور الوعر وخلف السناسل الحجرية، وهم يسمعونهم ينتحبون ليلاً، أو يصرخون، أو يلقون الحجارة على السقوف والنوافذ، فيتهامسون في الظلام مذعورين: هم لن يتركونا بسلام".

منذ نشَر قصائده ومقالاته الأولى، وهو لا يزال على مقاعد الدراسة في "جامعة بغداد" بدايات الستينيات، وعى الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني معنى أن تشكّل وقائع حياته وسيرته العائلية وتاريخ قريته أم الزينات بالقرب من حيفا، هوية جماعية لفلسطين كلّها، في صراعٍ تلزمه عدّة الشعر والنقد والترجمة، والبحث في الأركيولوجيا والعمران واللغة والاستشراق، وذائقة رفيعة في الفن والموسيقى؛ صراع مفتوح مع المشروع الصهيوني يستمدّ جوهر مقاومته من المعرفة والذاكرة.

وفي تلك المواجهة، أدرك الأسعد معنىً أساسياً كرّسه في جلّ كتاباته، يتّصل بعمق فلسطين الحضاري على امتداد آلاف السنين، والذي يصوغ هوّيتها العربية بروح حداثية تتقاطع مع هويّات جميع الشعوب المقهورة التي تُناهض الغرب ووكلاءه، باعتبار أن التحرّر من هيمنتهم لا يتحقّق إلّا عبر تفكيك بنية معرفية تأسّست على جملة أساطير فُرضت بوصفها حقائق ومسلّمات.

استطاع توريط قارئه في مغامرة بحثية وفكرية لا حدود لها

أمسك صاحب ديوان "الغناء في أقبية عميقة" (1974) ذلك الخيط الواصل بين سيرته بتشابكاتها مع كتّاب وفنانين وآثاريين من مختلف أنحاء العالم، وبين مسارات اللجوء الفلسطيني وتحوّلاته على مدار أكثر من سبعين عاماً، فقدّم في ثلاثيته الروائية "أطفال الندى" و"نص اللاجئ" و"أم الزينات تحت ظلال الخروب" فضاءً محتشداً بالأسئلة والأفكار والتأملات، متّخذاً من الحكاية ذريعةً لسردها وتوريط القارئ في مغامرة بحثية وفكرية لا حدود لها، فلدى كلّ شخصية ما تقوله عن رحلتها الواقعية والمجازية لفلسطين.

كان الأسعد وفيّاً لكلّ ما بذلته شخصيات رواياته، والشخصيات التي التقاها في حياته، من اجتهادات في دربٍ طويلة من الآلام والنبش في الماضي والحاضر، بدءاً من والدته التي رحلت عن قصصٍ وحكايات كانت كافية لإشعال مخيّلة ابنها، ليرسم صورة حيّة لا تموت عن قريته، وكيف استطاعت أن تنتشله من الخوف والعتمة وتحوّله من دون أن تدري إلى روايةٍ مثلها، بحيث تسرّبت ذاكرتها التي فقدتها واستقرّت في وجدانه وقلبه، لكن ظلّ يؤرقه سؤالٌ واحد: "هل من المعقول أنها لن تكون معي حين أعود أو يعود أحفادنا؟".

ويحضر في الرواية إدوارد سعيد الذي "كان يفكّر في أن المكان لم يعد ذا أهمية في تحديد هوية الكائن. ومع ذلك شاهدته قبل أن يغرق في صمته، يوصي مرتجفاً أن يؤخذ إلى هناك، إلى ظلال أرز لبنان، إلى مكان محدّد يُدفن فيه. لم يقل ادفنوني في الهواء، أو في ملتقى تيارات الألفاظ المتدافعة من كلّ اتجاه والذاهبة في كلّ اتجاه".

آمن أن مقاومة المشروع الصهيوني تجذّرها المعرفة والذاكرة

أمّا عالمة الآثار دوروثي غرود، فيروي الأسعد قصتها حين جاءت تنقّب عن آثار يهودية في كهوف الكرمل عام 1934، حيث اكتشفت أنها تفتّش في المكان الخطأ وأن الفلاحات الفلسطينيات اللواتي ساعدنها في الحفر، ومنهن يسرى، هنّ صاحبات المكان وحافظات إرثه، كما سجّلت في يومياتها التي بقيت مهمّشة في ذاكرة الثقافة الغربية حتى وقت قريب، فظهرت في ثلاثية سيرته لتقول جزءاً من حقائق التاريخ على أرض فلسطين.

حيوات وأناس وحوادث يسقط عليها الضوء فتخرج من ماضيها، ليقصّ الأسعد حكاية جدّه الذي عاد من حرب البلقان بعد أن بلغ الستين ثمّ تزوّج سبع نساء، والشيخ حمزة الذي كان طبيباً يداوي الناس، ونمر السعدي جريحاً يروي تفاصيل معركة "يَعْبد" لصحافي عربي، التي ولّدت بطولاتها حماساً لدى ثوار في فلسطين ومناطق أخرى من العالم العربي، وأكرم زعيتر مؤرّخاً في أوراقه كيف أدرك القسّام باكراً أن العدو الذي يجب مقاومته هو الاستعمار البريطاني وسط صمت زعماء الأحزاب آنذاك، وأحمد الشقيري الذي دافع كمحامٍ عن المناضلين المعتقلين الذين اعترفوا بحملهم السلاح والقتال في سبيل الله والوطن، ما يعني إعدامهم أو نفيهم، ولم يقبلوا نفْيَ التهمة عنهم، لتحفيف العقوبة عنهم.

حفظ صاحب ديوان "حاولتُ رسمكِ في جسد البحر" جغرافيا فلسطين وتاريخها عن ظهر قلب، وبرع في توليد الحكاية من الحكاية، والمعنى من المعنى، وسرد وقائعها ومنحها طابعاً أسطورياً، ويعيد قصّ الأساطير والخرافات كأنها جزء من الواقع وحقائقه، وليست مجرّد حواديت تُروى لينام الأطفال في حضن أمّهاتهم وجدّاتهم، ومنها قصة جبينة؛ الفتاة الجميلة شديدة البياض التي عاشت في قرية من قرى الجليل أو بيسان أو يافا حتى طلبها ابن الأمير للزواج، فغادرت قريتها ومعها خرزة زرقاء أعطتها إياها لتدافع عنها وتحميها. حمَل الأسعد خرزته الزرقاء ولا يزال حتى اللحظة يطوفُ في ذاكرة البلاد.

طواف يستدعي كسر حاجز الصمت القاتل الذي غيّب الفلسطيني منذ النكبة في الخطاب الفلسطيني والعربي الرسمي، في محاولة لطمس ملامحه الإنسانية وتحويله إلى مجرّد أرقام وحشد بلا ملامح، وإفراغ الذاكرة من عناصر حيويتها وقدرتها على الفعل في الحاضر، حيث تصبح كلماتٍ ودوالّ بلا مدلول، على حدّ تعبير الأسعد في مقابلة صحافية أجريت معه عام 2013.

في الشعر أيضاً، تتكرّر مفردة الصمت في معظم مجموعاته لتحيل إلى تاريخ من الطمس المتعمّد الذي تقصّد حبس الفلسطينيين في صور وقوالب جاهزة منذ أكثر من قرن، وحجب أصواتهم عن العالم، فيكتب: "وأخيراً سمعنا أصوات الصمت/ 500 قرية مدمّرة/ تقصّ حكايتها"، وفي مقطع آخر: "كلماتكم أيها الأجداد/ تسكنها الريح/ خاليةٌ من الصمت قرانا/ وعصافيرها العمياء".

رسْم أم الزينات وبقية قرى فلسطين لا تخطئه عين، نرى من خلاله أشجار الزيتون والخروب والصبار، ورجالاً جُبلوا من ثبات وصبرْ، ونساء يوزّعن الجمال والحكايات على المارّة، ولاجئين حملوا أطفالهم على الأكتاف ليلاً في وعرٍ لا نهاية له، متفرّقين في المنافي والشتات. وكأني أنصت إلى الأسعد يقول: "نحن كفلسطينيين نتذكر فنحيا، نتذكر فيجتمع شملنا".

 

المساهمون