رحل فريناندو بوتيرو عن 91 عاماً، وكان غداة رحيله من المصوّرين القليلين الذين لهم شهرة وتأثير عالميّان، ولو أنّ هذا الحضور كانت له، في حينه، أصداء متفاوتة، وعليه ردود لم يخلُ بعضها من التشكيك. إلّا أنّ الفنّان الكولومبي بقي، رغم ذلك، أحد الأخيرين الذين لهم هذا الاسم وذلك الحضور.
الفنّان الذي وُلد عام 1932 في كولومبيا ودار في أوروبا وأميركا، قبل أن يحوز تلك الشهرة التي جعلته يؤسّس في كولومبيا متحفاً جمع قطعاً أصيلة من الفنّ، بات معها من أفضل متاحف العالم.
مع ذلك يبقى السؤال: ما هو فنّ بوتيرو؟ فنُّه، مثله في ذلك مثل فنون أميركا اللاتينية، المكسيك مثلاً، التي ترك فنّانو الجداريات فيها - ريفيرا، سكيريوس، أروزكو وكاهلو - بالتأكيد أثراً على بوتيرو، الذي هو، كهؤلاء الفنّانين، جمع بين التراث الكولومبي والأميركي اللاتيني وبين مستجدّات الفنّ العالمي، بالإضافة إلى التراث الكلاسيكي. لكن لوحة بوتيرو، التي هي وليدة هذا التفاعُل، لم تسبق إلى المدارس الجديدة التي أطلقها القرن الماضي، فلم يكن له حظٌّ من التجريد أو التكعيب على سبيل المثال. الأرجح أنّ لوحته وجدت غايتها في التراث الكلاسيكي، كما أنّها، بدون شك، نهلت من الفنون الشعبية في كولومبيا والمكسيك وبقية أميركا اللاتينية، بالإضافة الى ذلك نهلت من الكاريكاتير والإعلان والقصص المصوَّرة وبقية الفنون الصحافية.
لا نشكّ أنّه كان للبوب الأميركي أثره في فنّ بوتيرو، كما أنّ لفنّ الجداريات المكسيكي أثر مماثل. مع ذلك فإن لوحة بوتيرو تدين بنجاحها وشهرتها إلى البدانة المبالغة إلى حدّ استثارة السخرية والتهكّم، وإلى حدٍّ تُوازي فيه الكاريكاتير والحكايا الشعبية... إلى حدّ يبدو فيه جمال البدانة وفرادتها وقوّتها التشكيلية، بدون أن تتحرّر اللوحة، مع ذلك، ممّا فيها من تهديم ونقد وسخرية.
الأجساد الضخمة الفائضة أعضاؤها إلى حدّ كبير، لا تخلو من تناسُق وتوازُن، بل إنّ فيها، غالباً، ما نستحبّه في صور الأطفال المعافين الأصحاء السمان. لكن بوتيرو لا يكتفي بذلك، إنّه يقصد غالباً إلى الإضحاك والسخرية، حين يجعل لهذه الأجساد الضخمة أياديَ رفيعة صغيرة كأنها مكوَّنة من خيطان، وهي فوق ضآلتها قصيرة، بحيث أن التنافُر بينها وبين بقية الجسد، يثير شعوراً بالتناقض الفظيع إلى حدّ البشاعة والكاريكاتير. عندها نفهم أنّ مقصود بوتيرو من ضخامة الأجساد فوق الطبيعية، ليس فقط استكناه ما في هذه الضخامة من اتساق، بل إنّ ميلاً إلى التبشيع يخامره بالتأكيد من ذلك وخلاله.
كان أحد الأخيرين الذين لهم هذا الاسم وذلك الحضور
إذا سألنا عن هويات هؤلاء الضخام بضخامتهم الفالتة، إنّهم بالطبع ليسوا جميعاً ذوي هويات، ليسوا جميعاً ذوي أسماء. مع ذلك فإنّ أصحاب الهويات من بينهم يستوقفوننا، إذ أنّ أسماءهم هي بالتأكيد جزءٌ من العمل وعنوان له. نحن بادئ بدء نتوقّف أمام موناليزا بوتيرو، الموناليزا قد تكون بفضل دافنشي أشهر امرأة في تاريخ الفنّ. ما يفعله بوتيرو بالموناليزا، موناليزا بوتيرو أو إحدى موناليزاته، لن يكون بصراحة سوى سخرية ظاهرة منها. إنّها بوجهها الطفولي، كما في إحدى الموناليزات، تملأ واجهة اللوحة وما وراءها من الخلفية الشهيرة لجوكوندا يبدو بدون قيمة، مع أنّه في اللوحة الأصلية جزءٌ من لغز اللوحة، أليس ذلك، عن قصد، تهكّماً على اللوحة وتقزيماً لها وإزراءً لها؟
سنلاحظ أمراً مشابهاً في راهب وأكثر يرسمه بوتيرو بنفس الغيظ الذي يقارب السادية. أمّا لوحات إسكوبار؛ المهرّب الكولومبي الشهير، إمبراطور كبتاغون، وقائد كارتل ميديين الجزّار الذي ذبح مئات الأشخاص ومن بينهم وزير العدل الذي أقاله من نيابته في البرلمان الكولومبي، لوحاته هذه كاريكاتير رائع، فنحن نجده في واحدة من هذه اللوحات مثقباً واقفاً مع ذلك وهو يطلق الرصاص من مسدّسه في الهواء.
هل كان بوتيرو بذلك فنّاناً شعبياً، هل هو هكذا إعلامٌّي من نوع خاص، هل هو، ضمناً، فنّان رفع الكاريكاتير الى درجة أعلى في الفن؟ هل هو فنّان مضاد؟ أم أنّه مجرّد لاعب على طريقته إن لم يكن مهرّجاً؟ أسئلة عدّة، لكنّ الرجل حينما وافته المنية، كان بالتأكيد أشهر وربما أثرى فنّان في العالم.
* شاعر وروائي من لبنان