"ليس حبّاً بل دعابة" لمحمود وهبة.. ضحكة بأسنان

18 ديسمبر 2022
محمود وهبة
+ الخط -

نبدأ بعنوان مجموعة محمود وهبة الشعرية، التي صدرت عن "دار النهضة" في بيروت. ترمي المجموعة العنوانَ في وجهنا، إنّه يُكذّب ما يكون قد خطر للشاعر والقارئ، وربما للمجموعة نفسها، من أنّه حبٌّ فقط. إنه دعابة فحسب. قد يجرّنا هـذا إلى أن نتساءل حول أي شيء. ربما نتساءل إذا كان هذا شعراً أو طرفة فحسب. تساؤُل جريء وعنوان جريء، وننتظر أن يكون النصّ أيضاً جريئاً، لكن ما ننتظره ليس حاضراً طوال الوقت، ما ننتظره ليس أكيداً.

لا نجد الحب في ثنايا النصوص وحده، لكنّنا نجد الدعابة إلى جانبه أيضاً. نجد جرأة هنا وهناك، لكنّنا، مع ذلك، نجد في هذا التكذيب، وهذا الرجم، ما يكاد يكون لا جرأة على الحبّ وحده، بل أيضاً جرأة على الدعابة.

لا يخطر الحبّ دائماً في النصوص، وحين يحضر يخرج من سواه

الحبُّ هنا محيِّر ومحيَّر، لكنّه متوارٍ في ثنايا الكلام، يُطلّ بهيئة ما، قد لا تكون هيئته الدارجة. ليس من داخل الدعابة ولا من ورائها، بل يفيض عن الدعابة بقدر ما ينغرس فيها. إنّه في ظلّها، لكنّها أيضاً في ظلّه. إنّها تُغيره، لكنّها أيضاً تتغيّر فيه. الحبُّ هكذا يغدو آخر، إنه هكذا على ضفاف الهزء، وأحياناً على ضفاف الشفقة. إنه حاضر، لكنه يبقى يكافح ليظلّ حاضراً. إنّه موجود، ولكن بصيَغ غير معتادة. أحياناً بصيغ تجتهد لتكون جليّةً، لكنّها، في ذلك كلّه، تستمر معلَّقة، وعلى الحافة، أو وشك السقوط.

الصورة
ليس حبا بل دعابة - القسم الثقافي

لكن هذه التوطئة قد تُشعر كأنّ الديوان كلَّه في مدار الحبّ، والحقيقة غير ذلك، فالحب لا يخطر دائماً في النصوص، وحين يحضر يخرج من سواه، يخرج من المعيش والدارج واليومي، يخرج من المبتذل والعادي، ولكن أيضاً المكسور والصارخ والمصدوع. يخرج ليلقي على الأشياء صدوعه وانكساره، أو ليشخص من صدوعها وانكساراتها. ثم إنّ الحبّ هنا يحضر ولا يحضر، وحين يحضر قد يكون مقنّعاً، وقد يكون ساقطاً ومتردّياً.

"دعينا نكسر هذا الأرق
بالقبل والصداع
بالماء الخفيف على رجلين
بحلمة في الصدر مروسة
وقليل من الشَّعر فوق العانة
".

ما نجده هنا أن القُبل تُجاور الصداع، لكنّ الحب يتردّى في هذا الماء الخفيف على الرجلين. يبدو في هذا الابتذال مبتذلاً إلى النهاية، بحيث لا نصل، إلّا دائخين، إلى ذلك القليل من الشَّعر فوق العانة. مع ذلك، الجسدي هنا لا يُجاور فقط العاطفي، لكنّه يحيله هو الآخر جسدياً، ويشيّئُه ويحوّله إلى متاع، إلى حلمة وإلى شَعر. هذا ما يبدو منطق شعر وهبة، كما يبدو تخييله، الذي يكسر المادّي في العاطفي والروحي في الجسدي.

"قلبك ليس هنا
متروك في قارورة على منضدة
".

إلى أن نصل في قصيدة أُخرى إلى:

"فمك الساهر أعرفه 
أرميه نرداً في زاوية، حجاباً على كتفي
".

من هذا الكلام القارص، الكلام المسنَّن بزوايا وانصداعات، لكنّه أيضاً الكلام الذي يقترف المعاني والصور وكأنّها خطاياه، كأنّها زفيره أو وخمه أو جروحه. الشعر هنا دامغ مروس، في حين أنه أيضاً مستهتر، لاعن، مجوّف.

"أنا أبي 
…………
أبذل جسمي دودة في الأرض
ملعقة وفضلات وإبر جيلاتين
".

إذ نبحث عن الدعابة، لا نجدها إلّا كشفرة، أو ما يشبه الشفرة. نجدها ماضية مسنونة، جارحة أو مجروحة. الضحك يتحوّل هنا الى قساوة، لكن أيضاً الى ضحكة مخنوقة، إلى فكرة مدماة، إلى لعنة مقهقهة أحياناً، وتظلّ مع ذلك لعنة. لنتكلّم هكذا عن ضحكة صافعة، لنتكلّم عن يأس ساخر، عن عدم غارق في نفسه، عن نكتة مع صرير في الأسنان، وطرافة جارحة.

"كيلو
لطافة
مؤونتنا
لسنةٍ
قادمة
".


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون