لم أتحدّث عن شجرة العائلة

29 ديسمبر 2022
تجهيز للفنان السويدي يوكوم نوردستروم، خلال معرض في نيو أورليانز بالولايات المتّحدة، 2018
+ الخط -

عندما أعطيتُ الملابس لوالدي، كان من الواضح أن عامل الحمّام يستحقّ مئة ليرة أُخرى. لقد حلق شَعر والدي المُتشابك ولحيته، ومشَّط شاربه إلى أعلى، ونظَّف وجهه جيّداً. ومع ذلك، كان هناك شيء ما يؤلمني في شكل والدي الجديد. كان مستلقياً على الحجارة في الحمّام، هزيلاً، وقد لفَّ المئزر حول خصره، كأنه مات وارتاح، وتحرَّر من كلِّ متاعب الدنيا، وتوقّف عن حساب الوقت.

كنتُ ممتنّاً لعامل الحمَّام. وضعتُ يدي في جيبي وحاولتُ إعطاءه مئة ليرة أُخرى، لكنه فاجأني، وأعاد لي النقودَ واعتذر عدّة مرّات لعدم التَّعرُّف على والدي في البداية. صارت النقود تتنقل بيننا ذهاباً وإياباً لبعض الوقت، لكنّ الرجل لم يقبلها في النهاية. قال إن أغاني والدي تردَّدت في حمَّامه لسنوات، لكنه لم يتعرَّف عليه في البداية لأنه لم يأت إلى أركانيا كثيراً ولم يظهر على التلفزيون، ولم تُلتقط له الصور أو يتحدّث إلى أيّ صحيفة، ولا يحبُّ الظهور على الملأ، مثل غيره من عازفي الساز، ووضع النقود في يدي.

يائساً، وضعتُ النقود في جيبي ثم شكرتُ عامل الحمّام الذي أصرَّ على استضافتنا في المدينة. أمسكتُ بذراع والدي، وبمساعدة عامل الحمَّام ساعدناه على ارتداء ملابسه الجديدة، لكنّ والدي، مثل كلّ المُسنِّين، كانت عيناه على ملابسه القديمة. وكي لا نزيد الأمر سوءاً، أخذتُ وشاحه الوردي من كومة الملابس القديمة في إحدى الزوايا ولففتُه حول خصره. وضعتُ كيس القسطرة الفارغ مكانه بحذر ثم وضعتُ زيت اللوز في وشاحه مع علبة التبغ.

قال عامل الحمَّام:
- والله لقد صرتَ مثل العريس يا عم هوس!

لم يعترض والدي على كلامه، ولا على المعطف الفضفاض أو حذائه الجديد. وضع يده حول رقبته وحاول جاهداً أن يُغلق زرِّ قميصه العلوي، لكنّه لم يستطع. كان هذا الزِّرُّ العُلوي مغلقاً دائماً، كأنَّ بضع كلمات ستهرب منه إذا تُرك مفتوحاً. ساعدتُه في إغلاقه وطلبتُ منه إلقاء نظرة أخيرة على نفسه في المرآة حتى يتمكّن من رؤية حلّته الجديدة.

شعرتُ بالارتياح بعد أن أخذتُ قيلولة في محطّة البنزين

وبدلاً من النظر إلى نفسه في المرآة، فضَّل أن يستدير وينظر إليّ، محاولاً عدم إظهار ذلك. كنّا نتبادل النظرات لأول مرّة منذ سنوات. استمرّ ذلك بضع ثوانٍ فقط. كأن هذه النظرات مصحوبة بصوت ابتلاع ريق منفصل من حلق كلِّ واحد منا. ظهرتِ ابتسامةٌ خفيفة على شفتيه، وركبنا سيارتي التي تنتظر بفارغ الصبر عند الباب، حتى لا يضيع المزيد من الوقت، وانطلقنا مرّة أُخرى.

كان يبدو في حالٍ أفضل، على الرغم من أنه ينقل كيس القسطرة من حين لآخر داخل السروال الجديد. كان وجهه مضيئاً، ليس بسبب إزالة الأوساخ التي عليه، بل اختفى الحزن بداخله أيضاً. اتكأ على الكرسي وكأنه بخير. في بعض الأحيان، كان يلمس قماش السروال الفضفاض بأطراف أصابعه، دون أن يُظهر ذلك لي، ثم يعدّل ياقة معطفه الجديد وينظر إلى حذائه الشبيه بالمرآة، بحماسة طفل صغير.

عندما عبرنا أركانيا وبحيرة الباباظ وجبل المقام، قال فجأة:
- لقد جئنا في الأصل من الطريق القديم خلف هذا الجبل، في سنوات الجوع والفقر. من خراسان إلى أرضروم. ومن هناك، سيراً على الأقدام، إلى تَكْمَان، ومنها إلى قرية أليغور، ثم أتينا إلى هاربوت وبعدها أركانيا، وأخيراً إلى سهل هوشاب.

كان يقول ذلك، ربما، لأعرفَ من أين أتينا، حتى لا أنسى أسلافي، أو ربما كان هذيانَ الشيخوخة فقط.

كان والدي على وشك مواصلة حديثه ثم بدأ الهاتف بالاهتزاز فجأة. كانت يلديز تتّصل وتردّدتُ في الإجابة. في الواقع، ربما كانت الفتاة سترتاح، إذا أوقفتُ السيارة وقلتُ شيئاً لها، لكنني لم أشعر بالرغبة في التَّحدُّث. كنتُ في دوّامة، ومضيتُ قُدماً في طريقي. عندما أخذتُ الهاتف واخترتُ الوضع الصامت مرّة أُخرى، فتحتُ صندوق البريد الخاصّ بي لأتحقّق ممّا إذا كان البريد الإلكتروني الذي أرسلته إلى أيلين قد تمّ إرجاعه. لم يرجع. ومع ذلك، عندما أعدتُ هاتفي إلى مكانه، توقَّف والدي عن الكلام وسقط في صمتٍ مرّة أُخرى، كأنَّ ما قاله للتوِّ لم يُكتمل، وكل ما كان عليه أن يقوله هو مجرّد حديث حول شجرة عائلة قصيرة.

شعرتُ بالارتياح بعد أن أخذتُ قيلولة في محطّة البنزين، حتى لو كانت لخمس أو عشر دقائق فقط، لكنَّ النوم كان يدعوني للارتماء بين ذراعيه، وأنا أسير عبر الجبال. كانت الجداول على جانبَي الطريق تتدفّق من الشقوق التي بين الجبال، وتُسرع كثيراً ثم تعود إلى حالتها السابقة، وكأنَّ غضبها قد انتهى. كنتُ أسير ببطء أحياناً بسبب الشاحنات التي تجد صعوبة في صعود الجبال، وأدير رأسي إلى الشجيرات، التي تُغيِّر لونَها فجأة، فتتحوّل من البُنِّي إلى النُّحاسي، وإلى الجبال الغريبة التي تتحوّل من الأحمر الترابيّ إلى الكرزيّ، وإلى الجسور والأنفاق التي يُقال إنها بقيت من زمن الألمان، وكنتُ أنظر أيضاً إلى مسارات القطارات التي تتبعنا طوال الوقت.

سرعان ما ظهرتْ نقطة تفتيش محاطة بكُتل إسمنتية، وُضع قنَّاصون على رأسها. قام رجال شرطة العمليات الخاصّة، الذين يُغطُّون وجوههم بقناع عليه نقوش "جوك تورك"، بإيقاف السيارات المارّة وفحص الهويات. تم تفتيش الحافلات والباصات المُصطفَّة وراء بعضها البعض، وأخذوا هويات الرُّكاب إلى مبنى صغير متهالك. أظهرتُ هوية المحامي للشرطيّ، الذي تباطأ وأعطاني إشارة توقّف، وتدلَّى شاربُه داخل القناع بشكل لا إراديّ، كأنه غير راضٍ عن هذا الموقف. أشار بإصبعه من داخل القفاز، وقال:
- من هذا؟
قلتُ:
- والدي. نحن ذاهبان إلى قارص.

لم أتحدّث عن شجرة العائلة التي تحدّث عنها والدي قبل قليل، لكنّني أظن أنه أحبَّ استخدامي لكلمة "والدي" مع الشرطة. وحتى وصلنا إلى مَعْدَن، ظلَّت تلك الابتسامة على شفتيه، وهو ينظر إلى الجبال، التي يتغيَّر لونُها باستمرار. أحياناً كان يحاول الاسترخاء فيتحرّك لأعلى وأسفل، وفي أحيان أُخرى، كان يضع يده داخل سرواله ويفحص أنبوب القسطرة، لكنّي أعتقد أن عقله ما زال يفكّر في إجابتي على الشرطي. تمنَّيتُ لو استخدمتُ كلمة "أبي" بدلاً من "والدي"، ربما سيكون أكثر سعادة، ومَن يدري، ربما تُعالجه كلمة مكوّنة من ثلاثة أحرف، لكنّني لم أستطع. لم تصل هذه الأصوات إلى فمي لأنها كانت تحوم في داخلي.


* ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، والنص المقتطف هنا فصلٌ من رواية "ليالي الحَكَواتِي"، الصادرة حديثاً عن منشورات "فلامنكو"، وهي الرواية المُقتبس عنها فيلم "مهرجان التروبادور" ــ والمعروف أيضاً بعنوان "عيد العشّاق" ــ الذي بثّته منصّة "نتفليكس".

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون