في لبنان الذي يعاني من التدهور المالي، والنقص في الكهرباء والأدوية والوقود، ويواصل الانهيار المتفاقم على شتى الصعد، والذي يتضاءل حراكه الشعبي، ويكاد ينقلب إلى هبّات سريعة، بينما يعمد أركان السلطة إلى إذكاء الصراع الطائفي واللعب عليه، في المقابل، تتوارى أحزاب السلطة ذات القواعد الطائفية، عن انتخابات الجامعات أو تخسرها، فيما يصعد شتات من الضالعين في الانتفاضة التي كادت تنحسر منذ عام، على الأقل. لعل انتخابات المهندسين التي فاز فيها ممثلو الانتفاضة بأكثرية ساحقة مثال آخر على هذا التغيير.
ماذا يحدث في لبنان الآن، وهل هو لبناني بحت، أم أنّه صدى أخير لـ"الربيع العربي" الذي انطفأ أو يكاد؟ ما يجري في لبنان يطرح ما كان في أساس الحراك الذي شمل "الربيع العربي" وهو بالدرجة الأولى علاقة المثقفين أو الجسم الثقافي بالسلطة. كانت السلطات العربية القائمة بعد سقوط فلسطين عبارة عن طُغَم عسكرية أو قبلية أو عائلية. إن هي تميّزت بشيء، فهو أنها تكاد تكون منفصلة عن القواعد الشعبية، التي تستمر في مبانيها القَبَلية والطائفية، فيما السلطات الجديدة تبني على القوى الأمنية والاستخباراتية، وتتحوّل إلى طبقات قائمة بذاتها. لم يكن "الربيع العربي" في واحد من مقوماته سوى ذلك النهوض لطبقة آخذة في التزايد، وبناء قوتها الخاصة، وتأثيرها المتتابع، هي طبقة المثقفين التي خرجت إلى الشارع لتواجه طغماً استولت على السلطة، بما يشبه الاغتصاب، ولا تزال تحكم، من فوق، مستتبعة لها أبنية اقتصادية وسياسية وبوليسية.
لبنان، بتعدده الطائفي، لم يكن تماماً على هذه الشاكلة، إذ تنتج كلّ طائفة، من داخلها، إطاراتها شبه العائلية، والتي ترفع، في تنافسها، إلى السدّة مثقفين شبه عائليين، بينما يكفل النظام الطائفي لمثقفي الطائفة حصصاً في السلطة وفي الإدارة. هكذا، كان اندماج المثقفين في الطائفة وجهاً من وجوه توزّع المثقفين على السلطة والمعارضة في آن معاً. هكذا، نجد أنفسنا إزاء طبقات عليا من المثقفين، هي تقريباً زعامات الطوائف، بينما نجد في المقلب الآخر طبقات دنيا تتجمع في معارضة طائفية أحياناً، بينما هي، في أحيان أخرى، معارِضة للنظام، وإن يكن، غالباً، من داخله.
ليس المثقفون اليوم في وارد الانتقال إلى سيّد جديد
لعلّ ما يدلّ على أنّ أزمة لبنان الحالية، ذات الوجه الاقتصادي إجمالاً، تتحوّل، أكثر فأكثر، إلى أزمة نظام، هو في هذا التراجع المتصل للأحزاب الطائفية وسط المثقفين. يمكننا القول إنّ النظام الطائفي لم يعد يرضي الجسم المثقف الذي كان يجد فيه سبيلاً إلى السلطة، عن طريق الأحزاب الطائفية، التي كان منطوقها الأيديولوجي في الغالب، يتجنب التصريح الطائفي، متخذاً من الوطن أو الأمة آفاقاً له، في حين تبقى الطائفة بالنسبة لهذه الأحزاب هي حشدها الفعلي وآفاقها.
اليوم، مع الأزمة، تنفصل السلطة عن الجسم المثقف، بمقدار ما لا تعود المحاصصة الطائفية قادرة على استيعاب الحراك الاجتماعي داخل الطوائف نفسها. لم تعد السلطة في هذا الحال، ولم تعد محاصصاتها ومنافعها السرية والظاهرة، قادرة على امتصاص حاجات المثقفين المتفاقمة أو الجواب عليها. لم تعد السلطة، خصوصاً في وضعها الحالي، هي المنتهى والأمل والغاية. إنّها في وضعها الحالي مفضوحة تماماً. ليس عجزها وحده هو المفضوح، لكن أيضاً، وبالدرجة نفسها تواطؤها واستتباعها المذل والمهين للقوى الطبقية والاقتصادية النافذة، التي صار احتكارها للسلطة، ما يشبه الاغتصاب والاعتداء والخطف. أي أنّها اليوم العائلات التي تتناهبها وتتقاسمها وتستولي عليها.
لقد غدت ملفات هذه السلطة ورشاويها واستتباعاتها مفضوحة مكشوفة، لدرجة غصت بالفضائح، في حين تنشأ في مواجهتها، وفي موازاتها، سلطات أخرى، تملك كلّ ما تملكه من سيادة واستيلاء، بل تسبقها في ذلك وتزايد عليها. المثقفون اليوم ليسوا تماماً في وارد الانتقال إلى سيد جديد، وإلى سلطات أخرى. ليسوا، إلا في شرائح محسوبة، في وارد الاقتصار على لعب أدوات تعبوية لسلطات لا يملكونها، ولا تملكها عائلاتهم، ولا مكان لهم فيها، إلّا في إطارها الدعوي، أي أن يكونوا فقط زجّالي الطوائف.
إذا علمنا أن ليس أمام هذه الطبقة المثقفة إلّا السفر إلى بلاد أُخرى، فإنّنا نفهم أنّ الوضع الحالي لم يعد فيه ما يغريها، وأنّه ليس صالحاً لإشباعها، وأن الأزمة تطاولها هي بالدرجة الأولى. إنّها أزمتها وهي وحدها القمينة بمواجهتها والرد عليها، وحدها القادرة على أن تطرح مشاريع مستقبلية، وأن تضع على المحك، هذه المرة، كلّ الدعوى الاستراتيجية والأيديولوجية للنظام اللبناني.
* شاعر وروائي من لبنان