"إذا سألنا أصدقاءنا أو أقاربنا في إسبانيا عمّا يعرفونه عن قطر، فإنّ إجابتهم ستكون إمّا 'القليل' أو 'لا شيء'. غير أنّ ما يثير الفضول حقّاً هو أنّنا إذا طرحنا السؤال نفسه على مؤرّخ أو سياسي أو صحافي، فلن تكون الإجابة مختلفةً كثيراً. في أحسن الأحوال، سرعان ما ستُذكَر بعض الصور النمطية عن الأمير، والعشائر والقبائل والبترودولار. من هنا كانت الضرورة إلى تأليف هذا الكتاب الذي يسلّط الضوء على هذا البلد، وما يزيد الأمر إلحاحاً هو أنّ هذا البلد سيستضيف بطولة كأس العالم، ما سيجعل هذه الإمارة الصغيرة محطَّ أنظار الإعلام العالمي كلّه تقريباً".
بهذه المقدّمة السلسة، يفتتح كلٌّ من المستعربَين الإسبانيَّين إغناثيو ألفاريز أوسوريو Ignacio Álvarez Ossorio، أستاذ "جامعة كومبلوتينسي" في مدريد، وإغناثيو غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا Ignacio Gutiérrez de Terán، أستاذ الدراسات العربية في "جامعة مدريد المستقلّة"، كتابهما الجديد "قطر لؤلؤة الخليج"، الصادر حديثاً عن دار نشر Península.
يقع الكتاب في 229 صفحة من القطع المتوسّط، ويهدف إلى وضع القرّاء الناطقين باللغة الإسبانية في أجواء التطوُّرات التي شهدتها قطر في غضون الخمسين سنة الأخيرة، لاسيّما في العقد الأخير منها، والذي شهد انفراد الإمارة بتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم من تشرين الثاني/ نوفمبر حتى كانون الأول/ ديسمبر من العام الجاري.
يحاول المؤلّفان في هذا الكتاب تقديم صورة موضوعية وعادلة عن التاريخ المعاصر لقطر، وأهمّ المحطّات في مسيرتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، آخذَين بعين الاعتبار جهل القارئ الغربي عموماً، والناطق باللغة الإسبانية خصوصاً، بالمجتمع والثقافة القطريَّين. ويشرح الكاتبان بدقّة وتفصيل كيف تمكّنت هذه الدولة الصغيرة على ضفّة الخليج العربي، والتي لا يتعدّى عدد سكانها خمسين ألف نسمة، وبموارد مالية قليلة جدّاً في منتصف القرن الماضي، أن تصبح دولة ذات نفوذ عالمي واسع، علاوة على تحوُّلها إلى محور فاعل يُعتدّ به في المضمار الدولي بفضل استثماراتها في الكثير من الدول الغربية والآسيوية والأفريقية.
صورة موضوعية عن التاريخ المعاصر للبلد
ويتعمّق الكاتبان في شرح مفهوم "السلطة الليّنة" الذي اتبعته الإمارة، ناهيك عن سياسة خارجية مبنية على أساس الحوار والتعاون مع القوى الإقليمية والدولية الرئيسية، الأمر الذي سمح لها بإقامة علاقات وديّة مع الكثير من القوى العظمى، على الرغم من المطبّات والمعوّقات والأزمات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط بصورة أو بأُخرى.
كما يتوقّف الكاتبان بشكلٍّ مفصّلٍ عند مسار الاستثمارات القطرية في إسبانيا وغيرها من الدول الأوروبية، والتوظيفات التي قام بها الصندوق السيادي القطري في قطاعات اقتصادية لها أهمية كبيرة، ويبرزان أنّ الدوحة أدارت سياسة محنّكة فيما يتعلّق بسبل استثمار عوائدها الناتجة من الغاز، حيث تترأّس قائمة الدول الأكثر إنتاجاً للغاز المسيل.
ويتناول الكتاب كذلك عدداً من الملفّات "الشائكة" المرتبطة بسمعة قطر دولياً، لا سيما بعد حصولها على حقّ تنظيم المونديال، بما في ذلك حالة اليد العاملة الأجنبية وقضية حقوق الإنسان، خاصّة حقوق المثليّين والإشاعات التي تنشر في وسائل الإعلام الغربية بخصوص ما أُشيع عن قضايا فساد متعلّقة بسبل اختيارها لاستضافة البطولة العالمية. ويجهد المؤلّفان نفسهما في جمع الأدلّة وشرحها بغية تقديم معلومة موثوقة وموضوعية، ليصلا في نهاية المطاف إلى نتيجة مفادها أنّ قطر بذلت في السنوات الأخيرة جهداً كبيراً لتحسين ظروف عمل اليد العاملة الأجنبية، حيث أجرت تعديلات جذرية في نظام الكفالة وسنّت قوانين جديدة ترفع سقف الحرّيات الفردية والعامّة في البلاد.
أمّا اتهامات الفساد التي أُطلقت ضدّها بخصوص حصولها على حقوق استضافة وتنظيم كأس العالم، فإن أغلبها ليس له أيّ سند قانوني، ولم تثبت في أغلبية الحالات، وأيّ التباس أو شبهة حول الموضوع فإنه يعود، في الأساس، إلى آليات الاختيار المتَّبعة لدى الجهات الرياضية الدولية، وما الفضائح الدولية السابقة، سواء على صعيد الألعاب الأولمبية أو كأس العالم لكرة القدم، إلّا دليل على ذلك.
يتعمّقان في شرح مفهوم "السلطة الليّنة" الذي اتّبعته قطر
يُبرز الكاتبان، في الختام، ملامح الطابع العربي التقليدي لهذا البلد والرغبة العارمة في اللحاق بالحداثة والتطوّرات التكنولوجية، مؤكّدين أنّ المستجدات التي عرفتها قطر، في العقود الأخيرة، وضعتها في صدارة دول المنطقة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ولكن هذا لم يمنعها من الافتخار بانتمائها العربي والقبائلي والإسلامي الذي منحها هذه المكانة في تاريخ الجزيرة العربية والعالم أجمع.
يذكر أن إغناثيو غوتيريث دي تيران من مواليد عام 1967 في مدريد، وتشمل اشتغالاته الأكاديمية مواضيع وعصوراً ومجالات متعدّدة (من الأدب إلى الاقتصاد)، كما أنه يترجم من وإلى العربية. من الأدب القديم ترجم "الروض العاطر" و"نزهة الألباب"، ومن الحديث "حبّات النفتالين" لعالية ممدوح، و"رأيت رام الله" لمريد البرغوثي، و"القوقعة" (بالاشتراك مع نعومي دياز) لمصطفى خليفة، و"حجارة بوبيليو" لإدوار الخراط وغيرها، بالإضافة إلى مختارات شعرية لمحمد الماغوط. وهو منسق فرقة المسرح العربي في جامعة أوتونوما وقد أدت مسرحيات عدة من مؤلفين عرب وأجانب.
أمّا إغناثيو ألفاريز أوسوريو، فهو أكاديمي وباحث إسباني، يعمل حالياً أستاذاً للدراسات العربية والإسلامية في "جامعة كمبلوتنسي بمدريد"، ويشرف على تحرير مجلّة Anaquel للدراسات العربية. من مؤلّفاته: "الخوف من السلام: من حرب الستّة أيام إلى الانتفاضة الثانية" (2001)، و"سورية المعاصرة" (2009)، إضافة إلى "سورية: العشرية السوداء، (2011 ــ 2021)"، الصادر هذا العام. كما حرّر وأشرف على العديد من الأعمال الجماعية، مثل "إسبانيا والمسألة الفلسطينية" (2003) و"المجتمع المدني والاحتجاج في الشرق الأوسط والمغرب العربي" (2013).