في استعصاء المقاربة البراغماتية أمام الإبادة

04 يناير 2024
طفلة جريحة ناجية من العدوان على مخيّم النصيرات يوم أمس الأربعاء (Getty)
+ الخط -

منذ فترةٍ طلبَ منّي صديق صحافيّ الإدلاء برأيي حول ما سماه انتشار ثقافة الموت وتمجيده في مجتمعاتنا العربية. كان مركز هذا النقاش والدافع الأوّل له، كما هو متوقّع، المَقتَلة التي تجري في غزّة الآن، وعملية المقاومة الفلسطينية التي اتخذتها "إسرائيل" ذريعةً لشنّ أعنف هجوم دمويّ عُرِف حتى الآن على القطاع وسكانه.

فهل تتعامل الأنظمة العربية والحركات المقاومة، ماضياً وحاضراً، مع رعاياها والجماهير الموجودة حولها بوصفها مؤلّفة من أرقام لا قيمة لها؟ الإجابة عن هذا السؤال بالنفي هي إجابة غير واقعية؛ فكثيرٌ من التصريحات والشعارات الكبرى تغيّب بشكل واضح شخصية الإنسان وأهمية حياته الفردية أمام "القضية"؛ على اختلاف القضايا التي ظهرت وتظهر في المنطقة العربية منذ بدايات القرن الماضي وحتّى اليوم.

ولكن، وكما أُصِرُّ دوماً، فإنّ مقاربة القضية الفلسطينية، بوصفها قضية استثنائية في عالَم اليوم، يجب أن تتم عن طريق الثنائيات، وهذا يعني أنّنا نكون أحياناً أمام معضلة ذات طرفين ولن تُحَلّ بمجرّد تخلّصنا من أحد طرفيها أو أننا نفترض أننا أمام مشكلة من نمط "إمّا...أو"، في حين أنّنا أمام مشكلة مركّبة من عاملين متصاحبين.

ليست القضية مجرد صراع سياسي براغماتي، إنها قضية وجود

وهذه المقاربة المركّبة ضرورية لتفادي الوقوع في فخّ التبسيط، لأنّ التبسيط يمكن أن يجعل الإنسان المعاصر- الذي لم يشهد العقود الماضية- يعتقد أنّ ما يقف في وجه العيش الكريم والأمن للفلسطينيّين هو تمسّك بعض الحركات السياسية والدينية المُقاتلة بأجندة راديكالية غير واقعيّة!

وهكذا إذا افترضنا أنَّ الراديكالية هي مشكلة، ولسنا في صدد نفي هذا الأمر أو عدمه، فهي جزءٌ من مشكلة أكبر فقط، ولا حلّ لها واقعياً بسيطاً ضمن المُمكنات الواقعية التي نملكها اليوم وضمن المستقبل المنظور.

فحتى إذا نحّينا جانباً، بشكل مؤقت، فكرة أهمية الاستقلال الوطني والهوية القومية لشعب معيّن (هو الشعب الفلسطيني في حالتنا هذه)، وفكّرنا بشكل براغماتيّ فقط، أي بالحياة الاجتماعية والاقتصادية اللائقة للبشر، ومقوّماتها وكيفية تحقيقها، فإنّ الحقيقة التي تواجهنا هي أنّه لا يوجد أي إثبات على أنّ تخلّي الفلسطينيين عن كلّ شكل من أشكال المقاومة المسلّحة يعني تلقائياً أنَّ "إسرائيل" تقبل بوجودهم داخل أراضي فلسطين التاريخية. وأنها "ستمنحهم" حقوق العيش الكريم واللائق الذي لا تندرج ضمن مفرداته أشكال المراقبة والرصد والتدخل والسيطرة على المقدّرات الحيوية جميعها.

لا بل إننا نملك براهين كثيرة على عكس هذه الفرضية. وتقول الحقيقة أيضاً إنّ طروحات "الترانسفير" وطرد الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزّة كانت حاضرة منذ عقود وليست وليدة اليوم أو نتيجة لعملية "طوفان الأقصى"، منها مثلاً اقتراحات القيادي اليميني المتطرّف، رحبعام زئيفي، الذي كان وزيراً للسياحة واغتالته "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" عام 2001، ردّاً على اغتيال "إسرائيل" لقائدها "أبو علي مصطفى" في مكتبه في مدينة البيرة.

تهجير الفلسطينيين من أرضهم ليس نتيجة لعملية "طوفان الأقصى"

ويعترف موقع "المكتبة الافتراضية اليهودية" أنّ زئيفي كان قد اقترح منذ عام 1988 فكّرة التخلّص من الوجود الفلسطيني في الضفة وغزّة وتهجير الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة. ومن التجلّيات التاريخية للفكر الصهيوني في القرن العشرين تيارات صهيونية تنقيحية وتوسّعية وأفكار لا تعترف أصلاً بفلسطينية الفلسطينيين، بل تقول إنّهم مجرّد عرب لا على التعيين ولا ثقافة مميّزة لهم تربطهم بأرض فلسطين التاريخية. كما أنها لا تقرّ بأيّ حقٍّ لهم بالوجود في أرض فلسطين، مقاومين كانوا أم غير مقاومين.

ومن ناحية أخرى، لا تعترف كلّ الحركات السياسية في "إسرائيل" بعملية السلام و"مؤتمر مدريد" و"اتفاقية أوسلو".  والحكومة الإسرائيلية الحالية تحتوي على أحزاب وحركات قومية ويمينية متطرّفة ربّما لم يكن يخطر في بال أشدّ مؤسّسي الكيان الصهيوني جموحاً في المخيّلة أنّها ستصل يوماً لتشكّل أغلبية في أعلى الهرم الحاكم.

وهذا يعني أنّه لا يمكن الركون إلى الحجّة القائلة بأنّ التيار السائد في "إسرائيل" يؤمن كلّه بالسلام، فيما لو تخلّى الفلسطينيون عن المقاومة المسلّحة، وأنّ الذين لا يعترفون بالسلام وبحقوق الفلسطينيين هم مجرّد أقليات لا وزن لها. فالعكس هو الصحيح، وما يسمى "معسكر السلام" في "إسرائيل" اليوم هو الذي يشكّل أقلية لا وزن لها.

وإذا ما افترضنا أنّ "إسرائيل" تعترف بالعرب ضمن مكوّناتها، وأنّ لهؤلاء حقوق المواطنية، إلّا أنَّ العربيّ "الإسرائيلي" المنحدر من عائلات عاشت قروناً في فلسطين، هو مجرّد فرد لا فرق بينه وبين "الإسرائيلي" من أصول بولندية أو روسية وصل إلى الكيان العبريّ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهو أدنى منه رتبةً وحقوقاً من الناحية العملية، ولا قيمة معترف بها لجذوره الفلسطينيّة المرتبطة بفلسطين التاريخية.

يفترض أيضاً الخطاب البراغماتي، وأنا هنا لا أدخل بجدلية تخطيئه من عدمها، بأنّ إبداء "النوايا الحسنة" تجاه العدوّ سيؤدّي بالضرورة إلى إنهاء العداوة، وبناءً على هذا يقول قائل: "لماذا لا يعترف الفلسطينيون بالواقع ويندمجون في "إسرائيل" ويعيشون الحياة الكريمة التي يتوقون إليها؟".

وهنا أيضاً، إذا علّقنا مؤقّتاً مسألة الهويّة الوطنية وفكرة أنّ حياة الشعب ليست مجرّد حياة مادية مزدهرة وإذا علّقنا قضية حق العودة لأكثر من عشرة ملايين فلسطيني في اللجوء هم أحفاد اللاجئين الذين اقتلعوا من وطنهم عام 1948 ومحطات تهجير أُخرى وتمنع "إسرائيل" عودتهم إلى أرضهم؛ يقوم السؤال أعلاه على الافتراض بأنّ لا مشكلة لدى "إسرائيل"، في الماضي والحاضر، في أن يندمج فيها الفلسطينيون من الضفة وغزّة، وأنّ ليس لديها مخاوف ديمغرافية من أي نوع. كما أنّها تبدو تنتظر على أحرّ من الجمر هذا القرار الفلسطيني وأنّ العداوة تجاه الفلسطينيين والأفكار -قبل المشاعر- العنصرية التي يكنّها هذا الكيان والأيديولوجيات الصهيونية المتعدّدة التي شكّلته هي مجرّد خصومة سياسية بسيطة تتعلّق فقط برفض الفلسطينيين الاندماج بإسرائيل والذوبان فيها كمواطنين صالحين، أي وكأنّها مشكلة حكومة أوروبية مع بعض المجموعات المهمّشة أو الراديكالية في ضواحي مدنها الكبرى!

الحقيقة أنّه لو كانت القضية الفلسطينية مجرد صراع سياسي فحسب، أي لو كانت قضية براغماتية مصلحية بطبيعتها، لكان الأمر هيّناً، وربما لم نكن لنرى كلّ هذه الدماء التي سالت وتسيل وهذه الوحشية الإسرائيلية منقطعة النظير والمستمرّة منذ عقود. ولكن الأمر أبعد وأمرّ، وهو بطبيعة الحال صراع وجوديّ متفجّر، وكثير من أبعاده لا يمكن أن تُقارَب بشكل تبسيطيّ يقوم على افتراضات شعورية واهية لا تقوم على أساس معرفيّ وتاريخيّ راسخ.

هذا لا يعني أنّني أنفي المقاربة البراغماتية بالمطلق لأقول إنّ الحلّ يكمن في مقاربة أخرى راديكالية مطلقة، لأنّ الواقع الذي أمامنا يصرّح بوضوح بأننا أمام قضية لا حلّ بسيطاً لها، ولو كان هناك حلّ كهذا لما كنّا اليوم نشهد هذه الجرائم الفظيعة التي ترتكبها "إسرائيل" وشركاؤها في غزّة.


* شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد

المساهمون