تنبيه: هذه المقاطع من قصيدة كتبتُها منذ أكثر من عشرين سنة تعطي الدليل، حسب اعتقادي، على أنّ الهمجية هي التي تتكرّر أكثر في تاريخ ما يُسَمّى بالبشرية. هنالك من يستطيعون تحليل هذه الظاهرة ببرودة، وعيونهم جافّة. أمّا أنا، فلا أقوى على ذلك. الكتابة التي تصدُر عنّي إنْ هي إلاّ وجَعٌ لا يُحتَمل، يَفتَرِسُ القلب والروح.
النفَق
ها هو ذا من جديد
طويلٌ، طويل
في أرض أُخرى
لا يستطيع فيها الناسُ
حتى أن يدفنوا موْتاهم
أسْميْتُكِ يا فلسطين!
أفكّرُ بكم
يا أصدقائي هناك
الذين تَرجمْتُ أشعارهم
"أناديكم
أشدُّ على أياديكم"
ثم أشعر بالغَباء
ماذا لَديّ لأقوله
ممّا قد تقولونه أنتم
ليس بطريقة أفضل
بل بمادَّةٍ مختلفة من الكلمات:
بياضُ الرّعْب، الذي يتعذَّر سَبُره
سوادُ الدم، الذي يتعذّر مَحْوُه
أرجوانيُّ الحلم المُغتَصَب
رماديُّ الأنقاض المسمومُ
الأصفرُ المعْتوهُ للَّحمِ المحروقِ
أخضرُ السيْلِ الظالمِ للدموع
أزرقُ اللعَنات الثمِلُ؟
هذا النفَق
طويلٌ... طويلٌ.
ما هذا العصر
الذي يطْحنُنا في شاحنةِ قمامته؟
ما هذا الكوكب
الذي يغلق في وجوهنا كلَّ أبوابه
ولا يترك لنا من مَخْرجٍ
سوى المسلَك الذي يجب فيه تقديمُ الدليل
على اليأس المُطلق؟
يا ليلُ
أنتَ من جديد
أيّها الملاذُ النادر للْحَيارى
والمَرْعى الوحيد
للعَين
ربما توجدُ فوق إحدى نجماتكَ
روحٌ نقيّةٌ، شاهِدٌ منصِفٌ
ينظر إلينا ويتألّم من عجزه
على رفْعِ إصبعه الصغير
ربما لا يوجد شيء
وهذا الصمت النجْميّ يمتثل هو أيضاً
لقانون اللّامبالاة الوَضيع
كيف لنا أن نعرف؟
يا ليلُ
أعطِ شيئاً ما
ولو ذرّة وهْمٍ
هذا البديلُ البخْس للأمل
ولو شُعاعاً يمكن تمييزه من وعدٍ
وإن كان أشدّ الوعود ضبابيةً
ولو نفْحةً وإن كانت في غاية الخفّة
تُحْيي رَمادَ الروح قليلاً
ولكن رجاءً، جنِّبْنا الشفقة
كلُّه، إلاّ هذا!
أفكّر بكم
يا أصدقائي هناك
وفجأةً لا أعودُ أعرفُ ما معنى تفكير
ما معنى كِتابَة
لقد أمسكَ الألمُ بالزمام
وراح يسوطُ حتى الموت مَطيَّةَ الجسد
تتقاربُ جُدران النفق الداخلية
أختنقُ من اختناقكم
أحْمي رأسي
مثلما رأيتُ أولادكم مرّات كثيرة
يفعلون
أصرخُ كي لا أرانا نُدفَنُ أحياء
أرتجف مثل أيِّ كائنٍ
ساعةَ الحقيقة
أؤمن في لحظة وأكفُر في التالية
أبصق على لوح الوصايا
وأستنجدُ بالفَناء
أزْحفُ على غير هدىً تحت أنقاضِ
البشريةِ المُتوفّاة
وأحياناً، يا للنعيم!
أشكُّ بشدةٍ بوُجودي
بِرَفَّةِ جفنٍ
أُلغي كلَّ شيء
أولاً ظَرفي كدُودةِ أرض
وبَعدَهُ سِفر التكوين
يوم الحساب
مروراً بالمَطهر
بدون تردّد
أمْحو هذا الكاريكاتير
وفوق النَّوْلِ أضع من جديدٍ عملي
أشعر بالكلام الفريد من نوعه يصعد بداخلي
ولستُ رسولَ أحد
لا أقول للضّوءِ
كُنْ!
بل من فضلك
لا أقول للعدالةِ
اضرِبي!
بل كوني عادلةً
لا أقول للجمال
استلْقِ!
بل اِسْطَعْ
مثل شمسٍ حُرّةٍ من كلّ إكْراه
لا أتوجَّهُ إلى قبائل أو شعوب
وإنما فقط إلى أولئك
الذين يتألّمون لألم الآخرين
ولا يتباهون بذلك
أهذي لهَذيانكم
يا أصدقائي
سامحوني
النفق لا يزال هنا
طويل، طويل
سأبقى فيه طالما بَقيتُمْ
لأنّني أنا أيضاً
لم "أخُنْ أشْعاري"
"أناديكم
أشدُّ على أياديكم".
* شاعر من المغرب