عن الحياة والموت

21 أكتوبر 2022
"العودة إلى البيت" للفنان السويسري أرنولد بوكلن
+ الخط -

يقدّم الروائي الإسباني خافيير مارياس تجربة فريدة في روايته "غراميات"، تتمثّل في مناقشة رواية بلزاك "الكولونيل شابير". وموضوع هذه الرواية هو عودة مَن كان في عِداد الموتى إلى الحياة، بعد سنوات من غيابه. والرواية البلزاكية تراجيدية بكلّ المعاني، فالفارس الشهير الذي كان بطلاً في نظر الفرنسيين، اعتُبر ميتاً في تقرير متعجّل لطبيبين رفعاه لنابليون، بعد أن أُصيب بضربة سيف من قِبَل أحد فرسان الروس في معركة اسمها إيلو. وقد دُفن في مقبرة جماعية، وصُفّيت تركته، ومُنحت زوجته، بتوجيه من نابليون نفسه، راتباً شهرياً مدى الحياة.

لكنّ الكولونيل لم يمت، بل يتمكّن من فتح طريق لنفسه بين الجثث في المقبرة ليخرج حيّاً. غير أنه منذ تلك اللحظة التي يُنقذ فيها نفسه، تبدأ مأساة حياته التي سوف تنتهي به في مشفى للمجانين مرّة، وفي التسوّل مرة، أو أخيراً في مأوى للعجزة مجهول الاسم. فادّعاء هوية كولونيل بطل شهيد ليس سهلاً أمام الأوراق الرسمية، غير أن هذا يتطلّب منه عناداً وقوّة روحية عالية لاستعادة اسمه، لكنّ رفض زوجته له يدمّره. إنها تكذّبه علناً، وتزعم أن هذا الرجل نصّاب ومحتال يريد نهب ثروتها، وتفكّر في إدخاله إلى مشفى المجانين مرّة أخرى.

أيوافق الأحياء على عودة الموتى، حتى لو كانوا أشدّ الناس قرباً لهم؟

تشتبك شخصيات رواية "غراميات" في حوار مع الحالة، أو مع رواية بلزاك، ومع بلزاك نفسه أحياناً، لتسأل: هل يوافق البشر الأحياء على عودة الموتى، حتى لو كانوا أشدّ الناس قرباً منهم؟ تبدو زوجة الكولونيل شابير شخصية نموذجية في التعبير عن الجواب، وهو: لا. إذ إن عودته إلى ما كان عليه تعني دمارها الشخصي. فهي متزوّجة من شخص آخر، وقد أنجبت منه ولدين، ولديها رصيد من المال الذي جمعته من تشغيل الأموال التي ورثتها عن شابير نفسه، فما هي مصلحتها في عودته إلى الحياة؟

تعيد الرواية السؤال عن القسوة واللؤم اللذين يقودان الأفراد إلى ارتكاب الفظائع تجاه الآخرين بحجّة أنهم يعيقون طريقهم. هنا تبدو الحياة نفسها مصدراً للقسوة، خاصّة حين تضع البشر في حقل التنافس على مكان العيش، وسُبل العيش. لا تبعد الحالة عمّا يحدث في عالمنا، فالحروب التي نشهدها ليست إلّا تعبيراً آخر عن تنافس الموت الذي يتذرّع بالدفاع عن الحياة. ولدى الجهات التي تشنّ الحروب اليوم (أميركا، روسيا، "إسرائيل"، إيران، تركيا، الأنظمة العربية)، كما لدى أنصارها، الذريعة التي تدّعي أن وجودها مهدَّد من الآخر، وهم يزعمون أن حياتهم مرهونة بموت هذا الآخر، لا بالحوار معه. أي أنّ مَن عليه أن يموت، هذه المرّة، ليس مِن الذين عادوا إلى الحياة، بل من الذين يجب إخراجهم منها.

اللافت أن عودة الموتى ــ وهي فرضية مستحيلة، إلّا في مثل حالة شابير ــ عبءٌ ثقيل يتحدّى الوجود البشري، إذ يشكّل حرجاً أخلاقياً، بينما يبدو ترحيل البشر من الحياة، أي قتلهم، ميسوراً وسهلاً، ولدى أصحابه من السياسيين والعسكر فلسفةٌ أخلاقية وفكرية خاصة، يعاونهم فيها جيش من الدُعاة الذين يبرّرون الحروب.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون