في كتابه الصادر مؤخّراً "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023)، يُقدّم عزمي بشارة تأريخا لنشوء الدولة وتطوّرها، وتحليلاً لبنياتها وعلاقاتها المتشابكة بالقومية والمجتمع وبأشكال السلطة السابقة على الحداثة، منفتحاً على الفلسفة السياسية والنظرية السياسية والعلوم الاجتماعية وفلسفة الأخلاق، وهو ما يميز أغلب كتابات صاحب "المجتمع المدني: دراسة نقدية" (1996)، وعياً منه بتعقيد الظاهرة وبالحاجة إلى تضافر تخصّصات مختلفة للإحاطة بها وتسليط الضوء على منطق اشتغالها.
لا أسعى في هذا المقال إلى الوقوف عند الجهد التأريخي الذي يميّز أكثر من عمل للمفكّر العربي، والذي سيجعل من هذا الكتاب مرجعاً لا مندوحة عنه بالنسبة إلى كلّ مشتغل بالدولة في السياق العربي، كما هو حال كتبه السابقة عن المجتمع المدني والعلمانية والطائفية والسلفية. ولكن ما أريد أن أتوقف عنده بالأساس هو تلك الأفكار والنظريات والنقاشات التي يزخر بها هذا الكتاب، والتي يمكن أن تساعدنا في فهم "الدولة العربية المعاصرة"، والوقوف على "لااكتماليتها" بتعبير علي المزغني، أو على ذلك الطلاق البائن والمستمرّ بين الدولة العربية والمجتمع المدني في تحليلات علي أومليل، أو استحكام "الغلبة والتناوب" بها، وما يعنيه ذلك من غياب أو تغييب للحرية بنظر عبد الله العروي.
وعلى الرغم من أن عزمي بشارة لا يلتفت إلى واقع الدولة العربية في كتابه إلّا بشكل شذري، إلّا أنه يقدّم لنا، في قراءته لتحوّلات ومآلات دولة الحداثة، مدخلاً أساسياً لدراسة الدولة في السياق العربي، هو الذي يُعبّر عن نفسه في مفهومَي: السيادة والمواطنة. فإلى هذين المفهومين يمكننا أن نعيد الجهد النظري للكتاب، أو كما يؤكّد صاحبه منذ مقدّمته، لا يمكننا أن نفهم الدولة الحديثة أو أن نُعرّفها في استقلال عن المواطنة، والتي يفهمها باعتبارها "الوجه الآخر للسيادة"، ولا يمكننا أن نفهم الدولة العربية إلّا باعتبارها نقيضاً لدولة الحداثة، التي فصلت جسد السلطة عن جسد الدولة، وربطت بين الحاكم والمحكوم، ورهنت السيادة بالقانون، ونحن لا نخطئ حين نحاول فهم الدولة العربية واشتغالها من خلال هذه المقارنة، فلقد سبقنا كلود لوفور إلى فهم النظام الديمقراطي من خلال مقارنته بالنظام التوتاليتاري الحديث أو النظام الملكي السابق على الحداثة.
مرجع لا غنى عنه لكلّ مشتغل بالدولة في السياق العربي
ويظلّ الفرق المركزي بين الدولتين العربية والديمقراطية، حتى لا أقول الحديثة - لأنّ الدولة العربية هي أيضاً بنت الحداثة وانعكاسٌ لتطوّراتها وتناقضاتها - مرتبطاً بالدور والمكانة التي تحتلّها المواطنة في كلّ منهما. يكتب عزمي بشارة بأنّ المواطنة هي "التعبير المُعاصر والأرقى عن سيادة الدولة بمعناها الحديث، وتنشأ من تحوُّل الشعب من رعية للحاكم إلى جزء من الدولة التي ينتمي إليها الحكّام والشعب، ويصبح أفراده أعضاء فاعلين في الدولة، ذوي حقوق، وعليهم واجبات، وليسوا مجرّد موضوعٍ للسلطة. قبل نشوء مجموع المواطنين، كانت الدولة هي السلطة فحسب".
ولا بدّ من التأكيد هنا، مع عزمي بشارة، بأنّها مواطنة فردية وليست عضوية، مرتبطة بجماعة أو جماعات، فالمواطنة، كما يقول، "هي عضوية في الدولة"، وتظلّ مرتبطة بحقوق وواجبات، وليس بانتماءات سابقة على الدولة والمجتمع.
وإلى جانب المواطنة، أو السيادة باعتبارها مواطنة، فإنّ التمايز بين السلطة والدولة، ميسمٌ أساسي للدولة الحديثة، وهو ما يسمّيه كلود لوفور "المكان الفارغ للسلطة"، فالسلطة متغيرّة والدولة باقية، علاوةً على احتكار الدولة للعنف الشرعي كما يؤكّد ماكس فيبر وما يمثّله ذلك من تجاوز لاستحكام العصبيات والطائفيات بالسلطة السياسية، حتى أنّه يمكننا القول بأنّ الدولة الحديثة من أكبر تجلّيات صيرورة العلمنة، لأنّها لم تفصل السلطة عن الكنيسة فحسب، ولكن فصلتها أيضاً عن الجماعات الإثنية أو حتى عن القومية، وإن ارتبطت في نشأتها التاريخية بالقومية، أو بالأحرى بقومية متخيّلة، كما يذكر بشارة، إلّا أن تطوّرها سيتجاوز تلك القومية أو ذلك الانتماء الضيق باتجاه انتماء كوني يقوم على ارتباط حُرّ بالدستور.
لا يمكننا تعريف الدولة الحديثة في استقلال عن المواطنة
تختلف الدولة الحديثة في صيغتها الديمقراطية عن الدولة الأبوية التي انتقدها إيمانويل كانط لأنّها لا تسمح لمواطنيها بالنضج، أو لأنّها ببساطة تحرمهم من المواطنة، وتطبع تلك الأبوية السياسة والمجتمع والعلاقات بين الحاكم والمحكوم، بل وبين المحكومين أنفسهم في السياق العربي، كما يؤكّد جورج طرابيشي. وكانط في رفضه للدولة الأبوية، يظلّ منسجماً مع تصوّره الديمقراطي عن التنوير، وينتصر لا ريب لروسو على هوبز، لأنّه يرفض الحكم المطلق. إنّ الدولة الأبوية تُعطّل المواطنة لأنها لا تقوم على شرعية قانونية، وهي بذلك تعطّل السيادة أيضاً. ففي رأي الحقوقي الليبرالي كيلزن، "لا يمكن تسمية الدولة بصاحب السيادة إلّا بوصفها نظاماً قانونياً". وذلك لأنّ "مفهوم سيادة الدولة دون سيادة القانون هو مفهوم خطير"، وهو ما يدافع عنه بشارة على طول صفحات الكتاب.
إن الدولة الديمقراطية قويةٌ بمؤسّساتها وقوانينها وبمجتمعها القوي، في حين تضعف دولة الاستبداد وإن تغوّلت، وهي تُعطِّل "الانقسام الاجتماعي" بتعبير لوفور، وهو ضعف يستبدّ بمجتمعها أيضاً، فأبويتها من أبوية المجتمع وامتداد له، أو لهذا المجتمع غير المكتمل، المؤجَّل باستمرار، والذي لم يتحرّر من ربقة الجماعة وانتماءاتها الضيّقة المعادية للفرد وحريته، والتي تُعطّل الانتقال من الجماعة إلى المجتمع، إذا ما تذكّرنا تحليلات هيلموت بليسنر مثلاً، أو حتى هشام شرابي، كما تُعطّل الانتقال من السيادة إلى المواطنة.
يكتب بشارة: "إنّ تحويل الجماعات إلى كيانات شبيهة بالمواطنين يحوّلها من جماعات تمارس وظائف اجتماعية حيوية ووسيطاً وقائياً محتملاً بين الدولة والفرد، إلى عائق يَحول بين الفرد وممارسة مواطنته". ولا تتحقّق تلك العلمنة للسيادة أو تحرّرها من مضمونها اللاهوتي إلّا كسيادة تقبل القسمة، كما يُوضّح دريدا في ردّه على شميث، وبلغة أُخرى إلّا في تحرّرها من منطق الأخواتية Fraternocratie، أو من ذلك الأخ الذي يصنع السياسة والقانون والمجتمع. ذلك أنّ السيادة في مفهوم كارل شميث ليست أكثر من استمرار للمفهوم القروسطي، ولم يخالف الصواب من كَتب بأنّ "تطوُّر الدولة نحو الاكتمال إنما يقود من السيادة المطلقة إلى السيادة النسبية".
تخشى الدولة العربية من تطوُّر المجتمع المدني، فتقوم بتعطيل حركته، وتشتيت قواه، فتُفرغ الأحزاب من مضمونها وتحرمها من دورها، وتحيي النعرات القديمة، وتؤلّب الطوائف أو الإثنيات بعضها على بعض، وفي أحسن الأحوال، هي تتحقّق بتعبير آيزنشتات كنيوباتريمونيالية Neopatrimonialism، وهو ما يجد بشارة نموذجه الأمثل في دول المحاصصة الطائفية بالعالم العربي، وإن كنتُ أرى أنه ميسم الدولة العربية ككلّ.
وفيما يدعو عزمي بشارة إلى التمييز بين السلطة الحاكمة والدولة في العالم العربي، فإن كاتب هذه السطور يرغب في نقاش هذه الأطروحة والاختلاف معها فالدولة أو مؤسّساتها المتمثّلة في الجيش والجهاز البيروقراطي مرتبطة عضوياً بالسلطة الحاكمة، بل هي مجرّد امتداد لها وتطبيق لسياستها، وهي ليست مؤسّسات بالمفهوم الحديث، ولكنّها مؤسّسات الواجهة والاستهلاك، وعودةُ الديكتاتورية بعد الربيع العربي تحقّقت من خلال تلك المؤسّسات التي نطلب المحافظة عليها، وليست فقط السياسية منها، مثل مؤسّسة الجيش في مصر، بل والمؤسّسات الاجتماعية مثل مؤسّسة الأسرة أو المؤسّسة الدينية.
إنّ الدولة في السياق العربي أو مؤسّساتها هي حاملة وحامية السلطوية. ولهذا، برأيي، فإنّ الانتقال نحو الديمقراطية في السياق العربي لا يستدعي فقط تغيير السلطة الحاكمة، بل وتغيير مؤسّساتها، رغم الكلفة الباهظة لذلك، وفيما وراء ذلك، تغيير الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة. ذلك أنّ الأمر لا يتعلّق بمؤسّسات أصابها "التصحر" Erosion بلغة هيغل أو "الموت" Entlebendigung أو "الفراغ" Entleerung، بل هي مؤسّسات وُلدت بعلّة موت، أو مؤسّسات وُلدت في رحم السلطوية، مؤسّسات تشتغل ضدّ منطق المؤسسات الحديثة وعقلانيتها. تتغيّر السلطة وتظلّ الدولة في ظلّ سياق ديمقراطي، أمّا سياق السلطوية، فهو لم يعرف الدولة لأنّه لا يعرف المواطنة، إنّه سلطة فقط. أو هي السلطة ضدّ الدولة.
يرى أنّ سيادة الدولة دون سيادة القانون مفهوم خطير
وتبقى من أهم النتائج التي انتهى إليها عزمي بشارة في تفكيره بالسيادة، أنّ "المواطنة مكوّن في مفهوم الدولة الحديثة، أمّا القومية فليست مكوّناً من مكوّنات مفهوم الدولة الحديثة". وتبرز أهمية هذا الطرح حين نعرضه على السياق العربي، والذي على امتداد عقود، ظلّ يُشهر ورقة القومية ضدّ المواطنة، ويُعطّل دولة الحقّ والقانون باسمها.
إنّ استمرار القومية في الديمقراطية أو ربطها بانتماءات متخيّلة أو سابقة على الحداثة، سينحطّ بها، كما يوضّح بشارة، إلى "إثنوقراطية" أو بلغة التفكيكية إلى "مونوديمقراطية". ولعلّ نموذجها الأمثل اليوم هو الجمهورية الفرنسية بعلمانيتها المتطرّفة. وهنا يُصبح من الضرورة أن نطرح سؤال العلاقة التي يتوجّب على الديمقراطية أن تقيمها مع ماضيها، ولنقُل مع القومية. فالديمقراطية الليبرالية، كما يدافع عنها هابرماس، تقوم علاقتها بالماضي على النقد والتجاوز، والانتماءُ بداخلها لا يتحقّق إلّا باعتباره انتماءً إلى دستور، أو ما يسمّيه دولف ستيرنبيرغر بالوطنية الدستورية، في حين ستقوم "المونوديمقراطية" بتمجيد ماضيها، الحقيقي أو المتخيّل، كما الحال في فرنسا، مع ما يخلّفه ذلك من شروخ مجتمعية، ولم يبالغ تلميذ هابرماس، يان - فيرنر مولر، وهو يؤكّد في كتابه المهمّ "الوطنية الدستورية"، بأنّ إخفاق فرنسا في التعامل مع ماضيها الاستعماري وصمتها عنه يُفسّر أيضاً فشل سياساتها في الاندماج.
مسألة أخيرة أريد أن أتوقّف عندها في هذا المقال، وهي تلك المتمثّلة في تحذير عزمي بشارة من إسقاط النقاش الفلسفي الغربي، مثل النقاش الدائر بين الليبراليين والجماعاتيين، على السياق العربي، ذلك أنّ مثل هذه العملية من شأنها أن تحجب عنّا الأسئلة المُلحّة للواقع السياسي العربي، والتي، وإن كانت الفلسفة الغربية "ضرورية" لفهمها، إلّا أنّها تظلّ - بتعبير المؤرّخ الهندي ديبش شكربارتي متحدّثاً عن الهند - "غير كافية".
* باحث وأستاذ فلسفة من المغرب