عبد الغني عماد: علم الاجتماع في العزلة

18 سبتمبر 2021
عبد الغني عماد في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

في الشهر الماضي، مرّت الذكرى الأولى لرحيل عالم الاجتماع اللبناني عبد الغني عماد. وكخبر رحيله منذ عام، مرّت الذكرى كذلك في صمتٍ لعلّه يشهد على العزلة التي يعيشها أمثال عماد من المُنكبّين على المعرفة، تحصيلاً وتأليفاً، ويشهد بخاصة على الواقع العربي لـ علم الاجتماع الذي يبدو مثل معرفة معزولة عن المادة التي يدرسها.

وَضَع عماد أكثر من ثلاثين كتاباً، يمكن أن نوزّعها بين فئتين كبيرتين؛ الأولى تلك الكتابات النظرية التي كانت تبحث في أسس المعرفة الاجتماعية أو في فهم قطاعاتها المتنوعة، ومن أبرزها: "علم الاجتماع والبحث العلمي"، و"سوسيولوجيا الثقافة"، و"سوسيولوجيا الهوية"، و"الهوية والمعرفة.. المجتمع والدين"، وهي أعمال تتميّز بقدرة مؤلفها في إعادة بناء الإشكاليات باستدعاء مجمل المعرفة التي تناولتها، وكان من المُفترض - أو هكذا كان صاحبها يأمل - أن تغذّي هكذا مؤلفات ليس المجال التخصّصيّ فحسب بل حقولاً معرفية وإبداعية أخرى، لكن - والحال كما نعرف في البيئة الثقافية العربية - فإن هذا التأثير بقي باهتاً وممسوحاً، ويكاد اسم عبد الغني عماد أن يكون مجهولاً خارج دوائر المشتغلين بالعلوم الإنسانية.

أما الفئة الثانية من مؤلفات عماد فتلك التي يمكن اعتبارها مشاريع تطبيقية تُركّب فيها النظريات والمنهجيات ضمن رغبة في فهم قضايا حيّة تعبر المجتمع، فتُؤثّر فيه ويؤثّر فيها. وضمن هذه الفئة من المؤلفات نذكر: "حاكمية الله وسلطان الفقيه"، و"ثقافة العنف في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية"، و"عبء الآخر: صورة العدو في العقل السياسي الأميركي"، و"الحركات الإسلامية في لبنان: إشكالية الدين والسياسة في مجتمع متنوّع"، وضمن هذه الفئة أتى أيضاً آخر إصداراته "في جينالوجيا الآخر.. المسلم وتمثلاته"، وهي أعمال تشهد على تنوّع مشروع عماد السوسيولوجي، وإن كان من الجدير التنويه بأنه كثيراً ما جرى اختزاله في كونه خبيراً في حركات الإسلام السياسي، وما ذلك إلا شكل آخر من أشكال فرض العزلة.

المعرفة التي لا يعاد إنتاجُها مهدّدة بالتلف والضياع

كمرّ السحاب يعبر هذا المنجز الفكري على ثقافتنا العربية. عادة ما تجري الإشارة إلى كون الإنتاج المعرفي معطّل عربياً، لكننا مع عماد أمام إشكالية أخرى؛ هناك ديناميكية إنتاجية لا يمكن إنكارها، ورغم ذلك لا تبلغ فائدتها المجتمع، بل لعلها لا يبلغ أثرها الاختصاص نفسه أحياناً.

تحتاج المعرفة - بعد توفّرها - إلى إعادة إنتاج وإلا فهي مهدّدة بالتلف والضياع، وذلك هو حال منجز عبد الغني عماد. وحين ننظر حولنا سنجد أن نجاح مفكرين مثل كارل ماركس وبيير بورديو ويورغن هبرماس في تأمين ديمومة التأثير المعرفي لا يعود إلى جودة الأجهزة المفاهيمية التي اقترحوها فحسب، بل أيضاً إلى توفّر أدوات إعادة إنتاج أفكارهم؛ من إحالات إليهم، ودراسات حولهم، وترجمات إلى لغات أخرى، وكتب عن سيرهم ومعاجم لمفاهيمهم...

لا تبدو ثقافة إعادة الإنتاج المعرفي متوفّرة في منطقتنا العربية، إلا بالحد الأدنى، ولقد كانت لعبد الغني عماد مساهمات فيها حين وضع كتاباً بعنوان "قسطنطين زريق: الداعية والمفكر القومي العربي"، كما نشر عماد في 2013 نصاً استعادياً بعنوان "حوار واعتذار من عبد الرحمن الكواكبي" في مدوّنته الإلكترونية "منتدى الحوار لتجديد الفكر العربي".

تعبّر هذه التسمية عن طموح يبدو أنه كان يخامر ذهن عالم الاجتماع اللبناني، ونجد أثره بسهولة في مجمل أعماله، حيث نقف على هاجس حُسن اكتساب المعرفة النظرية، وهي في الغالب مستوردة، ومن ثمّ حسن استثمارها في مقاربة إشكاليات الواقع المحلّي مع ما يقتضيه ذلك من مرونة وصبر. كل ذلك محكوم عليه اليوم بالحبس بين أغلفة الكتب. صمتٌ ينبغي كسره كي تتدفّق الأفكار وإلا فالأمر أقرب لاستسلام سيزيفي لمنطق البناء من الصفر في كل مرة...

المساهمون