"عبارات الطوفان" لبسّام بوننّي... معجم لزمن تحرُّري يتشكّل

15 مايو 2024
بسّام بوننّي
+ الخط -
اظهر الملخص
- "عبارات الطوفان" لبسّام بوننّي يحلل العلاقة بين الخطابات الأيديولوجية والأفعال في الصراع الفلسطيني، مبينًا كيف تصبح الكلمات أدوات لتبرير الفظائع وتشكيل الوعي.
- يستخدم بوننّي المنهج التداولي البراغماتي لإظهار كيف تُستغل العبارات لتغيير الواقع والوعي، مع التركيز على استخدام "إسرائيل" للخطابات لفرض رؤيتها.
- الكتاب يدعو المثقفين العرب لتفكيك الخطابات المُضللة ويؤكد على أهمية الكلمات في الصراعات الأيديولوجية، مشددًا على ضرورة فهم وتحليل العبارات لمواجهة التضليل.

بالتّوازي مع حرب الإبادة التي تدور رحاها في فلسطين، تستمرّ معارك الروايات والكلمات لتبرير فظاعات الأرض وتمريرها لدى الرأي العام. ولا يقلّ خطاب التبرير هذا فتكاً عن الحرب الملموسة، لأنّه يتحوّل بدوره إلى دوافع أيديولوجيّة و"قِيَم" سياسية، تتبنّاها السّلطات الحاكمة، فتُترجمها إلى أعمال مادّية؛ وبذلك تغدو الحدود دقيقة بين آثار الكلمات وذاكرتها وهمجيّة الطائرات وذخائرها القاتلة، لأنّ أحدهما يُؤدّي ضرورةً إلى الآخر.

هذه الجدليّة الخفيّة هي التي سعى الباحث والصحافيّ التونسي بسّام بوننّي إلى تحليلها في كتابه الأخير "عبارات الطوفان: حرب الكلمات والسرديات"، الصادر مؤخّراً عن "دار نيرفانا".

ينقسم الكتاب، وقد تجاوز المائتي صفحة، إلى فصول قصيرة، يحمل كلّ واحد منها عنواناً مُقتبساً من المقولات التي شاعت بين الناس وسارت عبر وسائط تواصلهم وإعلامهم سيرَ الأمثال والعبارات الناجزة، بعد أن اختزلت تجارب من أطلقوها خلال "طوفان الأقصى" ومن ذلك: "قاطعوا"، "معليش"، "روح الروح"؛ وغيرها ممّا أطلقه الجانب الآخر، كـ"حيوانات بشرية".

وقد عاد الباحث إلى عددٍ من هذه العبارات بغرض تحليل ذاكراتها الدلالية وتفكيك ما انطوت عليها من رهانات مُركَّبة، ثم ما نهضت به من وظائف ضمن معركة السّرديات المُستعر أوارها تزامناً مع معارك غزة. وهكذا، يتوسّل التحليل الذي أجراه بوننّي، وإن لم يُصرّح بذلك، بالمَنهج التداولي البراغماتي الذي يُنزل العبارات والنصوص ضمن سياقاتها التلفُّظيّة الأصليّة لدراسة آثارها في الواقع وتبعاتها على تغيير كلّ من الوعي والواقع الذي يحتضنه ويفعل فيه.

اكتناهٌ لرصيد خطابي لامَسَ وعي الملايين حول العالم

ولا شك في أنّ الباحث قد انتقى من عبارات الطوفان تلك التي تنخرط بوضوح في تصارُع الرؤى والتنافس الرمزي للروايات، والتي يريد كلّ طرف تحقيقها على أرض الميدان، هذا الميدان الذي امتدّت ساحاته لتشمل الوعي والصّورة والخطاب والرأي العام، بعد أن تعدّدت وسائل التواصل من رسميّة وغير رسمية وتنوّعت طرق الوصول إليه مُخاطبَةً وتوجيهاً.

وهذا ما يكشف الستار عن مهمّة جديدة، على المثقّف العربي أن يضطلع بها، وهي تفكيك خلفيات ذاكرة الكلمات وآثارها الراهنة مع استشراف آفاقها وما يمكن أن تُحدثه من الآثار. فتحليل الخطاب وفضح غاياته وأساليبه وأبنيته وما يُمارس عبرَه من تضليل هو اليوم من عاجِل الواجبات. وقد نهض بها ألسنيّون مشهورون، من بينهم نعوم تشومسكي وفرنسوا راستي، وحتى إدغار موران في أبحاثه الاجتماعيّة، كما تفنّن فيها باحثون عرب لا يقلّون عنهم عُمقاً وأصالةً.

غلاف الكتاب

يُبيّن الباحث التونسي في كتابه أسباب اختيار عبارات بعينها دون غيرها، لا معايير ذلك الاختيار بشكل صارم، ممّا جعل الكتاب فصولاً متعاقبة دون منطق داخلي متين. وعسى أن يُواصل باحثون آخرون هذا العمل في دراسات أشمل تغطّي كلّ المُفردات والعبارات التي ظهرت خلال هذا العُدوان وأثّرت في مجرياته، وذلك بعد تصنيفها وجدولتها حسب أجناسها وآثارها من أجل مزيد من التحكّم في حقولها الدلالية وترشيد استخدامها، بل وتدقيقه بحسب الفصول والغايات.

وهكذا، فالرّهان المعرفي الذي انبنى عليه الكتاب هو التذكير بأهميّة الكلمات وخَطر السرديات في صُنع جبهة تُخاض من خلالها حرب ثانية لا تقلّ تداعياتها عن الحرب الملموسة، ومن ذلك تخلّص الباحث إلى التنويه بأنّ "إسرائيل" - وليس هذا من باب الانهزاميّة - قد قطعت أشواطاً كبرى في حرب السرديّة هذه، وتمكَّنت من التأثير البالغ في العقل الغربي عبر "جنوده" من الإعلاميّين والسياسيّين واللوبيّات التي تُموّلها؛ وكلّهم يَلقَفون هذا الخطاب ويتبنّونه ثم يُعيدون إنتاجه وتكراره عبر خوارزميات خفيّة من أجل احتلال العقول وفرض رؤية نسقيّة واحدة، تتفاعل عناصرُها فتُوظَّف دفعةً واحدةً، بحيث لا يبرز عنصر دون استدعاء العناصر الأُخرى. 

كلّ هذا يهدف إلى خَلْق نسق من الأوهام، قد تدعمه حقيقة يتيمة أو نصف حقيقة، تُضخَّم من أجل خلق ما يسمّيه نُقّاد الأدب vraisemblance أو الإيهام بالواقعيّة.

معركة امتدّت ساحاتها لتشمل الوعي والصّورة والرأي العام

ولئن أشار غير باحث إلى قيمة الكلمات في هذه الحرب، بل وفي غيرها من المعارك، فإن جدّة هذا الكتاب تكمن في تخصيص مبحثٍ كاملٍ يعود إلى أبرز العبارات دون الاقتصار على السجلّ الفصيح الرسمي، ولأجل ذلك لم يتحرّج الباحث من إدماج العديد من العبارات الدَّارجة التي قيلت عَفْوَ البديهة، تنفيساً عن كُربِ الفقد وحتى عبارات إنكليزيّة مثل Do you condemn Hamas؟ وغيرها ممّا وُظّف في معركة الدلالات وجبهات التنافس القولي.

هذا الأمر جعل الدراسة أقرب إلى استكناه الرّصيد الخطابي الذي لامس وعيَ الملايين ضمن الجمهور العربيّ بمختلف شرائحه وحساسياته. من جهة ثانية، تميّزت هذه الدراسة بتوظيف نصّ جامع Paratexte أوسع من كلام طرفَي النزاع المباشرين، نصٌّ يتضمّن خطابات القادة السياسيّين والإعلاميين والمؤثّرين حتى ممّن لم ينخرط مباشرة في "طوفان الأقصى" ولا اكتوى بحِمَمه، ممّا ساعد في تفكيكٍ مفهوميّ، ينزّل الكلمات في مقامات أدقّ.

ولأجل هذا الغرض استعان الصحافي التونسي بوننّي بالعديد من الدراسات الألسنية والاجتماعية لسبر أغوار الدلالات اللغويّة والسياقيّة التي تنشأ من خلال استخدام اللغة، مثل ذخائر حقيقيّة، تَنفجر بعد إرسالها من أفواه المدافع والرشّاشات، فكلّ كلمة عبارة عن ذخيرة حيّة، تنطلق من مكمنها لتُصيبَ هدفها أو لتخطئه، مُخلّفةً لا محالة عدداً من الضحايا والشظايا. فالكلمات ذخائرُ حيّة تُصيب مَقاتِلها إن سُدّدت بدقّة، وهي أنواع ذات أحجام ومديات متفاوتة. ولكل جنس تداعياته على الوعي والفعل؛ وهما متلازمان.

في الماضي، كانت الكلمة المقدّسة هي التي تُضفي على التاريخ طابع التعالي وتقود الوعي إلى الهدى والتحرّر. واليوم، تسوق كلمات السياسة الوعي إلى الضلال. ومن اللافت أن يُشتقّ مصطلح "التضليل"، ترجمةً لمفهوم مهمّ في الأنثروبولوجيا السياسية وهو manipulation، من عين هذا الجذر، تأكيداً أنّ المعركة في عمقها معركة قيمٍ، خسرها الغرب بكلّ المقاييس وسقط فيها بمثقّفيه وصانعي خطابه سقوطًا مُريعًا. وهو ما أبان عنه "طوفان الكلمات".

هذه العبارة هي أيضًا "استعارة حيّة"، بما يحمل الطوفان معه - حين يَطْمي - من تراكمات الصور البالية وادّعاءات "إسرائيل" والغرب المُضلّلة، وها هو يجرف بفضل صدق كلماته وبراءة مَن أطلقها من المضطهدين كلّ البناءات الخطابيّة المُعقّدة ومرتكزاتها الواهية التي بَنتها خداعًا آلة الدعاية الإسرائيلية. إنها "نفثات مصدور" صمدت في وجه أزيز الدبّابات الغاشمة. وكم من كلمة أصابت، "ومن المسافة الصفر"، مقتلاً في أباطيل السردية المناوئة. وما تحرُّك جماهير الطلّاب وأساتذتهم إلا دليل قاطعٌ على نفاذ هذه الكَلمات وأنّ سردية مختلفةً ممكنةٌ وضرورية. 

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون