تدعوني حرب غزّة، لا أعرف كيف، إلى قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر". لا أعرف كيف يمكن لطفل من غزّة، لشهيد تحت الأنقاض، أن يسترجع هذه القصيدة التي كُتبت قبل اثنين وثلاثين عاماً، وحملت في طياتها إشارات إلى انتفاضة الحجارة، كما دُعيت يومذاك. لكن القصيدة اشتهرت، لا في قراءة فلسطينية فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، في قراءة إسرائيلية.
القصيدة التي لا تمانع ترديد "انصرفوا، اخرجوا" في خطابها للإسرائيليّين، اعتبرها هؤلاء اعتداءً وادّعوا هكذا على شاعرها. قد تكون قصيدة محمود درويش مواكبةً ما لانتفاضة الحجارة، لكن القصيدة، التي هي كتلة واحدة والتي تبني على فكرة مفادها انصرفوا واخرجوا، والتي تكاد تكون، في تسلسلها وبنائها وسياقها، مقالة منظومة، لكنّها مع هذا الاتصال والتتابع والوضوح لا تزال تعود إلينا كشعر خالص، بل هذه إحدى مفاجآتها، أن تكون هكذا قادرة على أن تجد الشعر وراء الدعوة، أن تجد اللحظة الشعرية التي تعتصر الدعوة، وتغنّي على هامشها، تُحوّلها إلى زفرة وإلى طلقة كلامية وإلى تنفيس بحت، في حين تزيدها هذه الموسيقى وذلك الغناء تكاملاً وتماسكاً وقوّة جدلية وإقناعاً، أي ازدواج النفس والفكرة، وتداعي الفكرة إلى حدّ تكون معه قلباً ولحناً، وتغنّي فيما الفكرة لا تزال تعمل.
لا تستطيع القوّة والطغيان أن يفرضا أكذوبة أو خداعاً
هذا ما يدعونا إلى أن نستذكر قصيدة محمود درويش، بل وأن نستعيد فيها وقائع بحالها، وذكريات صرفة لا نستعيد معها انتفاضة الحجارة فحسب، بل يمكن لها، في وقتنا وفي هذا الحين، أن تكون ثانية شهادةً للأطفال تحت الأنقاض، وصوتاً للحرب على غزّة.
تبدأ قصيدة محمود درويش ممّا يبدو ختاماً، بل يبدو خلاصة وعبرة؛ إذ لا بدّ من كلّ هذا العسف، وكلّ هذا التجريح، وكلّ تلك المعاناة، ليقف الشاعر في النهاية قبالة المحتلّ، بل يقف ليقذف في وجهه: "احملوا أسماءكم وانصرفوا/ واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا". لن نفكّر هنا في من هو الأقوى، في من يملك القدرة على دعوة كهذه، لن نفكّر في نشيد حربي ودعوة قتالية، فالكلام يتجاوز ذلك كلّه. الكلام هو بعد هذه المقاربة، بل بعد المعركة. إنه حيث تكون الحقيقة حاضرة، حيث يكون التاريخ شاهداً.
لا نصدّق محمود درويش وهو يقول: "فلنا في أرضنا ما نعمل"، أو وهو يقول: "فلنا في أرضنا ما نعمل/ ولنا الماضي هنا/ ولنا صوت الحياة الأول/ ولنا الحاضر، والحاضر والمستقبل". ليست هذه هي الأرض الخاضعة للاحتلال، وليست الماضي التوراتي. إنّها بعبارة درويش صوت الحياة الأوّل، صوت الحياة الذي ينبثق من وراء كلّ ذلك، من الماضي الحقيقي، ولكن أيضاً من الحاضر الحقيقي. ليس هذا بالطبع الاحتلال، إنه شيء أكثر من الزمن، وفوق الزمن، إنّه نوع من الزمن الأصلي، من الزمن الأوّل، الذي وحده يحمل وعداً بالمستقبل، الذي هو أيضاً المستقبل الأوّل، المستقبل الأصلي.
لا يعني ذلك أنّ محمود درويش يتكلّم من خارج الوقائع، الوقائع حاضرة ولا يزال يؤشّر لها: "منكم السيف ومنّا دمنا/ منكم الفولاذ والنار ومنّا لحمنا، منكم دبابة أُخرى ومنّا حجر... فخذوا حصّتكم من دمنا وانصرفوا".
لا تفعل كلّ هذه القوّة، كل ذلك الطغيان واقعاً أو حقيقة، إذ لا شيء منهما ينفي ذلك الأصل، لا شيء منهما قادر على أن يفرض أكذوبة أو خداعاً، لا شيء منهما يمكنه أن يكون أصيلاً. الحقيقة هي في الحجر لا في الدبابة، إنّها في اللحم لا في الفولاذ والنار، كلّ هذا مارّ وعابر لمارّة وعابرين، كلّ هذا لن يدوم، فنحن في الأوّل، نحن الحياة الأُولى ومستقبلها وماضيها. لا أظن أنّ الثاوين تحت الأنقاض والخارجين من الأنفاق يملكون أكثر من هذه الشهادة. إنهم تحت الردم وتحت القصف يعيشون من شهادة كهذه، نحن الأصل، نحن الحقيقة، فاخرجوا وانصرفوا.
* شاعر وروائي من لبنان