طيور تظنّ السماء قفصاً ضخماً

13 أكتوبر 2020
جون خايرو خونييليس (تـ: لورا غارسيا)
+ الخط -

عرقُ الخيول الحُلو

لي حصانٌ في قلبي
لم أُرِد، ولكن هكذا هي الأمور،
ماذا سأفعل به.
يركض جبالًا ومنخفضاتٍ
حتى عينيّ،
وحين يكون على وشك أن يقفز إلى الخارج
أشدُّ اللجام وأعيده إلى الحظيرة.
حينذئذ يحرن، لكنه بعد ذلك يهدأ،
ويُلقي برأسه بين ضلوعي،
أحسّ لعابه الثخين،
وأسمع نحيب الموج الذي له.
لي حصان في قلبي
جزء منّي يريد له أن يخرج
أن يركض في التلال الزرقاء
ويأكل من مراعٍ أكثر خضرة.
لكن المرّة الأخيرة كان العشب مُرًّا
ولا أريد له أن يمرّ بذلك من جديد.
حين أسير في المدينة
أشعر بداخلي أنه يقف على قدمين ويصهل
إنها طريقته ليطلب منّي أن أتركه يركض مرّةً أُخرى.
حينها أربّت على عُرفه وأبحث عن طريقة لإقناعه، أقول له:
"البكاء على المفقود هو فقدٌ من جديد
ربما نسيتَ المرّةَ الأخيرة
كانت هي حُلوة كالندى الذي يبقى
على العشب قبل مطلع الشمس
ثمّ لم يكن في السهل سوى الحجارة
وأنت، تهذي وحدك في فرارك المذعور".
لي حصانٌ في قلبي
لم أرد،
ولكن هكذا هي الأمور،
ماذا سأفعل به؟


■ ■ ■


قصيدة إلى أمّي

الحياة امرأة تصنع بيديها ما تدعو إليه الحاجة.
هواء عائلي مميّز يربطني بهذه الحائكة التي أمضت ثلاثين عاماً أمام ماكينة الخياطة
التي تستمع إلى المسلسلات الإذاعية،
ولا تزال تحتفظ في خزانتها بحبال أبنائها السرّية الثلاثة.
من أي خشب صُنع هذا القارب الذي قطع نصف نهر دون شكوى،
ويؤمن أنّ كل شرّ معقود بناصيته الخير؟
كم موتاً ينقصني لكي أشبهها؟
لأقول كما تقول هي:
"إن عشتَ كأنك تملك الإيمان،
فسوف تُمنح الإيمان".
قبل سنوات من مولدي
علّقت أمّي لوحة لا تزال حيّة 
طفلان يجمعان الورود على حافة منحدرٍ،
وملاك حارس يتعوّذ بحضوره من الخطر.
أخبريني يا أمّي بعينيك السرّ
أخبريني كيف يصل الواحد سعيداً حتى النهاية، رغم المهاوي،
أخبريني أنا
أنا الريشة المتّسخة الوحيدة في جناحيك.


■ ■ ■


بقايا القهوة

حين تتناول القهوة، تبدو أُمّي تنظر من خلال جدران الشقّة
وتعبر المدينة والريف حتى أرضها.

كأنها في الانتقال نسيَت شيئًا هناك
ولا تستطيع تذكُّر ما هو.

حين تنتهي من قهوتها، تنظر أُمّي في صمت إلى قاع الفنجان،
وكأنها في البقايا المظلمة لتجد،
ربّما، الإجابة.


■ ■ ■


الذين يسمعون أغنياتٍ في الظلام

أنا وأنتِ نعلم أن الحبَّ يستهلك عجلاته،
لكن لا بُدَّ من الدوران والإحساس بالرياح.
نعلمُ أيضًا أنَّ قلبَنا سيفٌ وليس ملعقةً،
وأننا يومًا ما سنُنْصِتُ إلى شروق اليوم
في حيوانات بعيدة.
لسنا بعيدين كلّ البعد كما تظنّين
ليس سوى لفتةٍ وبضعِ كلمات
يا طفلةً لَيِّنَةً وحُلوةً كالمانغو عند الظهيرة،
كعرق الخيول،
كأغنية الطائر الخفي.
أنتِ تعلمين أنّ الحب
هو هذه الأرجوحة التي تهزُّها الريحُ في فنائنا.
أقول لك هذا بصوت غُرابٍ ترَبَّى على العسل،
يختار كلمات من القطن ليُحدّثك:
أنا علامة التوقّف في الطريق الذي تسيرين
وأنا الموسيقى التي تجعلك ترقصين في الصغر.
لم أعش في خزانة مختبئًا من قبلك.
كقمرٍ لكواكبَ مُخطئةٍ
قضيتُ عشرين عامًا في البارات والمكتبات
لأشرب القهوة في نهاية المطاف في مطبخ أمّي،
أنظر إلى حقيقتها،
حرةً بشكل غريب،
وكأنها تعلم شيئًا مختلفًا عمّا نعلم جميعًا.
سنصل إلى بعضنا،
كأعميَين يدخلان السينما.
لأنّ تفكيري في وجودك في مكان ما
يعينني على المواصلة.
ولأنني أعلم أنك في نفسِكِ تعرفين
أنّ أجمل القبلات هي التي
ستأتي.
تلك التي أحفظها فقط من أجلك
هذا الحلم الذي لا أنساه أبدًا حين أستيقظ.


■ ■ ■


مراسم

الألم مثل فرشاة أسنان جديدة
في البداية تُدمي فمك، لكن مع الوقت تُليّنُ الأسنانُ شعراتِها الخشنة. 
ويومًا ما، تستيقظ معتادًا على سن أشواكها.


■ ■ ■


موسيقى لحيوانات محبوسة

بعد زمن سنقول إنه كان خطأ أن نتحابّ هكذا،
إنّك تقضين لياليَ طوالًا كتِنّينِ كرنفالٍ ياباني
والآن صحتك متدهورة - لا أقول ذلك من أجلي -
فأنت تعرفين أنَّ بي عيبَ تجاهل الماضي.

وحاضري شَقة فوق محل وشوم،
وثلاجة تالفة، وتلفاز سيّئ الإشارة،
وامرأة جميلة وغريبة.
وإن ظللتِ تتّهمينني بالجُبنِ والكذب،
وإن كُنتِ على حقٍّ، لا في هذا،
وإنّما في أمر أكثر خطورةً،
وضربًا في نفوسنا.

رغم أنك لو جئت لمارسنا الحب كعادتنا،
ثم أعطى كل منا ظهره للآخر لنسمع أفضل
طيران أجفاننا.
لحسن الحظ يعلم كلانا
أنّ الطيور التي لم تعش في أقفاص
تظن السماء قفصاً ضخماً.


■ ■ ■


بكل الأبواب

حين تصل الكلاب إلى الشيخوخة
تفقد الشهية
ثم تعمى.

تُحَرِّكُ "لُوسيرو" رأسها تائهةً
كمن يبحثُ عن شيء،
عن طبقِ طعام،
أو قطٍّ يتجولُ بين الصناديق أو بين أشجار الموز.

تذهبُ من جانب لآخر
كأنها تسمع أصواتًا
تناديها من جوانب الفناء المتقابلة.
تصطدم "لوسيرو" بآلةِ الخياطة،
بالحائط، بعصا المكنسة، 
بكل الأبواب.

لم تعد ترفع قدمها لتبول،
فليس لها مكان تبول فيه، لا تعرف في أي اتجاه،
لذلك تبول على أربع أقدام:
العلامة التي لا بُدَّ تدلُّ الكلاب
على أن شيئًا سَيِّئًا يحدث.

في نهاية اليوم، وبعد بحث طويل،
تنتهي لوسيرو في مكانها الدائم،
ركن مظلم وباردٍ تحت حوض الغسيل.

هذه الكلبة العجوز والعمياء التي قريبًا ستموت
أنقذتنا سنواتٍ بنُباحها
من اللصوص الذين كانوا يتسلّقون جدرانًا متوَّجةً بزجاجٍ مكسور.
 
هذه الكلبة التي لم تر البحر قطُّ
تموت وهي تظن أنّ العالم كلّه
هو هذا الفناء،
وأن ليس ثّمَّةَ مكانٌ أفضل
من هذا الركن البارد تحت حوض الغسيل.

أسأل نفسي: بماذا تشعر لوسيرو
الآن وهي تسمع مواء القطط.


* ترجمة عن الإسبانية: أحمد محسن غنيم


بطاقة
John Jairo Junieles شاعر وروائي وصحافي كولومبي. وُلِد في قرية سينسيه عام 1970، ونشأ في مدينة كارتاخينا، ودرس في جامعتها. فاز ديوانه "أغنيات حيٍّ على الحدود" - ومنه هذه المختارات - بالجائزة الوطنية في الشعر لمدينة بوغوتا عام 2002. إلى جانب دواوينه الأربعة، نشر مجموعتين قصصيّتين وروايتين، وقد صدرت روايته الأخيرة "الرجل الذي كان يكلّم مارلون براندو" منتصف العام الجاري. تُرجِم شعره إلى الإنكليزية والإيطالية والألمانية والسويدية، وهذه أول ترجمة شعرية له إلى العربية. 

المساهمون