استمع إلى الملخص
- اللوحات تتجلى في إيقاعها ونغمتها، وتملك موسيقى خاصة بها، مما يجعلها تضمر إرثاً فنياً عريقاً وتبني على تاريخ فني متكامل.
- موضوع النور هو العنصر الدائم في فن بعلبكي، حيث يسعى إلى تصوير الضوء كطاقة وقوة، ويعكس بيروت بملامحها الحجرية بروحها وموسيقاها.
ندخل إلى معرض "ضوء داخلي" للفنّان اللبناني أسامة بعلبكي، الذي اختتم أمس في "غاليري صالح بركات" ببيروت، بألفة بالغة. حين نغدو وسط اللوحات نشعر بأنها تخصُّنا، وبأنّنا هكذا في منازلنا. إنّنا في مكان له هويته، بل إنّ هذه الهوية لا تزال تسكن اللوحات التي، في تتابُعها وتواليها، واحدة بعد الأُخرى، كبيرة كانت أم متوسّطة، تجد بينها شعيرات تواصُل، بل والتفاتات بعضها إلى بعض، بحيث أنّها رغم تعدّدها وتفاوُت أساليبها، بل وتنوّعها، تَصدر عن مجال واحد، أو بعبارة أُخرى عن الرؤية ذاتها، ليست الرؤية فحسب، بل هذا النزوع غير المرئي والمحسوس فقط، إلى قربى بين الأساليب على اختلافها، وقرابة بين الموضوعات على تعدّدها. بل هناك ما يوحي بأنّ موضوعاً واحداً، هو في اتّساعه وتفرغه، يغطّي على المعرض بكامله.
ليست وحدة التأليف في المعرض أمراً عارضاً، لكنّها، إذ نتصفّح لوحات المعرض واحدة تلو أُخرى، ليست شيئاً يمكن تحديده، ولا يرجع إلى عناصر يسهل تعدادها. إنّه في باطن اللوحة، في إيقاعها وفي نغمتها. لنقُل إنّه في روح اللوحة إذا صحّت العبارة. إنّه نظامها ومبناها، بقدر ما هو رسالتها وفحواها. إنّنا لا نزال نشعر به من بعيد وقريب، لا نزال نراه يتردّد في اللوحات، من دون أن نجد له، مباشرةً، اسماً.
لعلّنا، ونحن أمام اللوحات، نسمع منها ما يضاهي الوشوشة، التي تهمس في أحيان، بينما تُفصح أحياناً أُخرى. اللوحات، أيّاً كان موضوعها، وإن كان ذلك أبرز في لوحات الليل ولوحات البحر، تملك ما يمكن تسميته فوراً بالموسيقى. لوحات أسامة بعلبكي هي، من ناحية ما، تضاهي أعمالاً موسيقية. في اللوحة ما يتموّج وما تتردّد أضواؤه. هو هذه النغمة التي تتداخل في التأليف وتغشيه وتنتقل فيه. اللوحة هكذا موقعة منغّمة. يمكننا أن نشعر أنّ اللوحة لا تكتمل إلّا وقد تجاوبت فقراتها وتفاصيلها، واحدةً تلو أُخرى. لوحة أسامة هكذا تُضمر، ولو في السرّ والعلن، إرثاً فنّياً.
يسعى إلى تصوير الضوء بحيث تكاد اللوحة تكونه فقط
إنّها لا تكتمل إلّا وخلفها نسق وإيقاع، هي هُما وهي مثالهما، اللوحة لا تكون إلّا بهما، فهي على الدوام ذلك النسق، ذلك الشكل الذي يُعاد تأليفه، ويجعل من اللوحة، على الدوام، هذه الإعادة. الليل لا يكون، وكذلك البحر والمنظر والأشخاص، إلّا بهذا النسق، بهذا النظام الذي هو دائماً إعادة تأليف. هكذا نفهم أنّ اللوحة تبني على إرث فنّي عريق، تبني على تاريخ فنّي متكامل. موسيقى اللوحة هكذا تردّنا إلى هذا الإرث، تردّنا إلى الإرث الانطباعي، ولو في لوحة ثانية، تبقى القراءة الانطباعية ماثلة وحاضرة.
لعل من عواقب هذه الموسيقى، ومن مسارحها الأُولى، ومن مواضيعها الدائمة، بحيث يبدو وحده موضوعاً دائماً في فنّ بعلبكي، بل يجعلنا نتساءل إذا لم يكن هو موضوع أسامة المثابر الذي ينشر موسيقاه ويتداعى فيها وإليها. هذا الموضوع هو النور. يتراءى لنا من ذلك أنّ بعلبكي هو، على نحو ما، رسّام النور. حين نرى العتمة فنحن نرى نورها، بل نراها نوراً موقّعاً. حين نرى الأوقات في اللوحات نراها نوراً. لكن البحر في تموّجاته لن يكون سوى هذا النور، سوى تلك الموسيقى التي تنتظم في لحن، في موجات ضوئية. لكن عدداً من لوحات أسامة بعلبكي لا يكتفي بذلك، إنّه يسعى إلى تصوير الضوء، بحيث تكاد اللوحة تكونه فقط، وبحيث نرى الضوء من داخله، نراه طاقة وقوّة، نراه انفجارات ضوئية، الأمر الذي ينقلنا من بعيد إلى فان غوغ.
معرض بعلبكي هذه المرّة، أكثر من غيرها، هو معرض مَديني. رغم أنّ طبيعة الريف موجودة فإنها، في هذا المعرض، ذات إيحاء مَديني. يمكننا أن نتكلّم عن المعرض بوصفه معرض بيروت. نحن في المدينة، لنقُل إنّنا في مدينة، لأسامة بعلبكي بيروته ومدينته. نشعر أنّ المدينة ليست موجودة بحجرها ومبانيها واجتماعاتها فقط، بل نشعر أن لحجر بعلبكي رقة ريشة. إنّ للمشهد الحجري ذات الموسيقى، هكذا نرى في المعرض ما يمكن اعتباره متحفاً بيروتياً.
* شاعر وروائي من لبنان