ربما كانت المصادفة هي التي جعلت من "الرحلة" الشكل الأول الذي عبّر فيه الإنسان العربي عن لقائه الأول بالحضارة الغربية، وقد تجسّدت تلك الرحلة في شخص مثقف كبير متنوّر اسمه رفاعة الطهطاوي، الذي صاحب أول دفعة من المبعوثين المصريين للدراسة في فرنسا.
بدت فرنسا في عيني الطهطاوي نموذجاً متقدّماً ينبغي لـلمصريين السير على نهجه، وخاصة في مجال الصناعة، أو العلوم البرّانية كما سمّاها، ودافع عن وجهة نظره في كتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، ولعل استعارة الإبريز وهو الذهب الخالص، أن تكون ذات دلالة عميقة على الموقف الفكري لرفاعة الطهطاوي من البلد الذي كان يشهد نهضة مجتمعية شاملة في كافة نواحي الحياة. وهو دفاع يتضمّن شرحاً من وجهة نظره لهذا المجتمع، الذي يتمنّى في أعماقه أن تستطيع بلاده اتباعه في هذا النهج. يخلو كتاب الطهطاوي من الكراهية أو الحسد أو الحقد أو تشويه الحقائق التي رآها. ويدعو بحب إلى التعرّف على الحضارة الغربية المتمثلة بفرنسا في ذلك العصر.
وحين وصل طه حسين بعد الطهطاوي بعقود، لم يكن قد تغيّر الكثير في مصر، أو في العالم العربي، وبدا أن هذا العالم قد وضع كتاب "التخليص" على الرف، وتغاضى تماماً عن الدعوات التي تضمّنها، ولم يلتفت بعد ذلك إلى طه حسين أيضاً في كتابه "الأيام"، واقتصرت الإشادة بهذا الكتاب الرائد على قطاع الثقافة. واللافت أن طه حسين لم يعلن العداء للغرب أيضاً، وإذا كان أول من شيّد علاقة العربي بالغربي من خلال الحب، أي من خلال تعرفه إلى سوزان التي صارت زوجته، فقد كان يرى أن ذلك هو الشكل الإنساني العميق للعلاقة التي يجب أن تكون فعالة بين العالمين.
حسمت رواية الطيب صالح صورة الغرب كعالم لا يمكن أن نلتقي به
هكذا بدت الرحلة إلى الغرب بوصفها مسعى للتغيير، وهكذا بدت صورة الغرب بوصفه نموذجاً ومثالاً يتحقق الانتقال من حالة التخلف من خلال السير على خطاه. غير أن موقف الروائي العربي قد تبدّل تماماً في العقود التالية من القرن العشرين. تغيّر معنى اللقاء. والطريف في الأمر أن الروائي العربي الذي أتقن صنعة الرواية على النموذج الغربي، قد استخدم هذه التقنية الرفيعة للتنديد بهذا الغرب. ولعل "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، وهي الرواية التي حسمت صورة الغرب كعالم لا يمكن أن نلتقي به، أن تكون مثالاً ناصعاً على هذا الموقف الجديد.
وقد نجم هذا التبدّل عن أمرين: الأول هو سياسة الاستعمار التي دمّرت صورة القيم الكبرى التي أرستها الحضارة الغربية في الحياة الاجتماعية والسياسية، والثاني هو ظهور حركات التحرّر وما صاحبها من الوعي الوطني والقومي. وربما كان الانزلاق في هذه المواقف قد ذهب، دون أن يقصد الروائي العربي، في اتجاه رفض العالم الغربي لا نقده. فمن غير المعروف بعد أثر الرواية العربية في الوعي العربي، ولم يدرس بعد فيما إذا كان الموقف الروائي المستجد بخصوص العلاقة مع الغرب قد ترك تأثيراً سلبياً في وعي العرب تجاه هذه العلاقة.
* روائي من سورية