شعبي أم رفيع؟

23 أكتوبر 2020
شافع وزاني/ الجزائر
+ الخط -

يميل جون ستوري في كتابه "النظرية الثقافية والثقافة الشعبية" إلى جعل التوزيع الكمّي مقياساً للشعبية أحياناً، على الرغم من أنَّ هذا الرأيَ قد يحمل كثيراً مِن المخاطر الفكرية؛ فمن المعروف أنَّ أكثر ثقافة نالت هذه الحظوة في الانتشار محلّياً وعالمياً هي الثقافة الأميركية الشعبية، أو ما يُعرف عالمياً باسم "الأمركة"، وهي تشمل السينما والأغاني والملابس والألعاب وشكل الحياة اليومية، ويمكن للجينز نفسه أن يكون ذا دلالة واضحة على هذا الحضور الثقيل للأمركة في حياة الشعوب كلّها.

ولعلَّ "الأمركة" نفسَها قد فرضت نفسها، إلى جانب الدعوات الشيوعية لتعميم الثقافة، على السياسات العامّة لمعظم الحكومات في العالم. وفي بلادنا لاقت الثقافة الشعبية، والشعب، كثيراً من التبجيل الإعلامي الذي صاحب صعود شرائح من "اليسار" إلى السلطة. ويُشاد بها على أنّها تُمثِّل طموحات الشعب، وتُعبّر عن آماله وآلامه، دون أن يتمثَّل هذا الضجيجُ في تفعيل هذه الثقافة، بل إنهم يضعون في المقابل تعبيراً آخر هو "الثقافة الرفيعة"، ويعنون بها تلك التي لا يتداولها الشعب، أو لا تصدُر عن المنابع الشعبية، بل يُنتجها كُتّاب ومفكّرون وفلاسفة وشعراء في مجال آخر مختلف عن المجال الشعبي.

وتتضمن العبارة تعريضاً غير مباشر بالثقافة الشعبية التي تُعتبر هنا، كما يقول جون ستوري "ثقافة دنيا". ويُمكن أن يكون الفارق بين الفصحى والعامية معياراً، بشكل خاص في اللغة العربية التي تشهد تبايُناً شديد الوضوح بين فُصحى متعارَف عليها وعاميات هائلة العدد، للتفريق بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية. وأكثر ما يظهر هذا الأمر في الشعر؛ إذ لا تُوجَد رواية شعبية، بل حكاية شعبية، وهي تختلف عن الرواية من حيث الحبكة والمعنى والبناء. وليس لدى المسرح الشعبي الكثير ممّا يقوله في مواجهة المسرح، وأنا أشير هنا إلى المسرح العربي.

يُمكن للثقافة الرفيعة أن تتحوّل إلى ثقافة شعبية في نتاج أدبي واحد

والطريف هو أنَّ مسرح شكسبير كان يُعتَبر، حتى نهاية القرن التاسع عشر، مسرحاً شعبياً، بحسب ما يذكر جون ستوري، بينما يُعتبَر اليوم مثالاً على الثقافة الرفيعة. ولكن الشعر الشعبي هو النوع الوحيد القادر على إنتاج ثقافة موازية يمكنها أن تتحدّى الثقافة "الرفيعة"، وهو ما ظهر بقوّة في الشعر الشعبي المصري، وبشكل خاص الأبنودي ونجم وغيرهما.

وهناك روايتان عربيتان نالتا شهرة شعبية واسعة جدّاً قياساً إلى هذا التقدير، وهما "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي و"عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، غير أنَّ شهرة كلا الروايتين كانت موسمية، وأقرب إلى الموضة، بعكس نزار قباني ومحمود درويش اللذين أصبحا شاعرَين شعبيَّين، في حياتهما، وبعد مماتهما، إذا ما كانت أرقام توزيع الكتب دليلاً على هذا التقييم. غير أن للشاعرين مكانة شعبية مختلفة تحتاج لأكثر من الكلام عن الكميات الحسابية.

واللافت أن المستوى الثقافي الرفيع لخطاب محمود درويش الشعري المشبع بالرموز والدلالات المستمدّة من ثقافات عديدة لم يكن عائقاً أمام مثل هذا الانتشار الشعبي الكبير. ويمكن لدرويش أن يكون مثالاً، كما هو الحال لدى شكسبير، على إمكانية أن تتحوّل الثقافة الرفيعة إلى ثقافة شعبية في نتاج أدبي واحد.

موقف
التحديثات الحية
المساهمون