- تركز على بطلة روائية تحارب النسيان والاختفاء، مع تصوير الشخصيات الساعية للحفاظ على الذكريات والموجودات المختفية، في مواجهة "شرطة الذاكرة".
- تلمس الرواية قضايا النسيان والاختفاء في الواقع، مثل الأوضاع في غزة وفلسطين، مقدمة نفسها كمرآة للواقع وتحفة تحث على التأمل في قوة الفن والكتابة ضد القمع.
سِيرة امّحاء، موضوع رواية "شرطة الذاكرة"، للروائية اليابانية يوكو أوغاوا (1962). وأوسع من ذلك، وخارج الكتابة؛ فإنَّ المرء يُلاحظ سيرة الاختفاء هذه في حياته، وفي العالَم مِن حوله. اختفاءُ الموجودات، واختفاءُ المهن، واختفاءُ البشر هو ديدن الأيام. لكن في الرواية، يظهر الاختفاء أمراً من سلطة أعلى.
ليست سلطة الزمن بالمعنى الذي يشعر بهِ البشر في حيواتهم، وإنَّما هي سلطة تعطي الأوامر لتسقط موجوداتٌ من التداول. وعبر هذا الإقحام لسلطة البشر في شؤون الزمن، وبامتلاكِ قدرةٍ هي مُلك الزمن أساساً؛ يصبحُ هذا الموضوع روائيّاً ديستوبيّاً. ولو أنَّه في الحقيقة هو عالمنا نفسه، وتجربة عيشنا.
الرواية إخراجٌ جديدٌ للحياة، تدخُّلٌ في شكل الحياة. والفنّ بالصورة التي يظهر بها في الرواية اقتراحٌ على العالَم، لتفسير قسوته. يذهب القارئ إلى هذا الاعتقاد، عندما يعرف أنَّ بطلتها تعمل روائية، وتكتبُ روايةً عن امرأة بدورها تعيش في ظلّ سلطة رجلٍ ما. الشخصية الرئيسية في "شرطة الذاكرة" وتلك التي تكتبها في رواية داخل الرواية؛ تُعانيان من سلطة أعلى. النصّ وما يحتويه من نصٍّ آخر؛ حلقتان إحداهما تنطوي على أُخرى، إحداهما أوسع من أُخرى.
رمزيّة الاختفاء تُشير إلى حال القيم الإنسانية في عالمنا
السلطة تأمرُ الناس بأن يفقدوا ذاكرتهم، والشخصية التي تعمل روائية، تدفع بالشخصية التي تكتبها لأن تتذكّر في سلسلة قهرية تُعاند بعضها، قبل أن تأتي الطبيعة بهيئة زلزال؛ وتعيد ترتيب الحكاية. لكن نحن نعرف منذ البداية أنَّنا نقرأ عن جزيرة تختفي فيها الأشياء، وتُشرف شرطة الذاكرة على سَير الاختفاءات، فتُلاحق مَن يحتفظ بأشياء اختفت. حتَّى إنّ والدة الشخصية الرئيسية في الرواية، تُعتقل، وتَختفي.
ونعرف في مراحل متقدّمة من النصّ، أنَّها كانت نحَّاتة، وأنَّها احتفظت داخل التماثيل التي أنجزتها بالكثير من الموجودات التي اختفت. النحت لديها، كما الكتابة لدى ابنتها، أداةٌ لقهر سلطة أعلى ومعاندتها. لكنّ الاختفاء يشمل كلَّ مناحي الحياة؛ بدءاً بالروائح، حتَّى الطيور والسفن، وانتهاءً بأعضاء الجسد. مع ذلك، فالاختفاء الذي يؤزّم الشخصية، ويشكّل عقدة الاختفاءات كلها في النص، هو اختفاءُ الروايات.
التلخيص السابق للرواية، وصولًا إلى حدث اختفاء الروايات الذي تعقبه حوادث كثيرة تعرض بمجملها محو العالم القديم بلا رجعة، واختفاءه من غير أن يترك أثراً؛ مقدّمةٌ طويلة للقول بالفراغ الذي يتركه غيابُ الكتابة، وهي هُنا أداةٌ يمتلكها المسحوق في صراعه مع سلطة تقهره. والرواية الصادرة عن "دار الآداب" بترجمة محمد آيت حنَّا (2021) دليلٌ للكُتَّاب على المادة الخالدة التي يمتلكونها، على المادّة التي بمقدورهم أن يُعيدوا باستخدامها صياغة العالَم من حولهم. خاصة عند النظر إليه، نراه عالماً تختفي فيهِ يوماً بعد آخر، قيمةٌ إنسانية، لصالحِ قيمٍ تُغرِّب البشر أكثر عن طبيعتهم، إمَّا بالاستهلاك المُفرط أو القتل المُفرط.
بعيداً عن الرواية، وفي صلب موضوعها في الآن نفسه؛ رأينا في المذبحة المستمرّة بغزة؛ كيف تختفي الموجودات بالتدريج، يختفي الطعام، يختفي الدواء، تختفي البيوت، ومن ثم يختفي البشر أنفسهم. وحتى مَن كان يُشارف على الموت، أوصى بأن تستمرّ الرواية بعد موته، وأن يحافظ من بقي حيّاً على حكاية من مات. والرواية تقترب بصورة لا يستطيع المرء تجاوزها من حكاية فلسطين التي يرويها أبطالٌ واقعيون يُقاومون الاختفاءات التي يفرضها عليهم الصهاينة، جنداً ومستوطنين بكلابهم البوليسيَّة وطائراتهم. وحكاية فلسطين ديستوبيا واقعيَّة لعالَم يُسرق، لعالمٍ يُستبدَل بإشراف شرطة دوليَّة.
لكن ما جعل فوز السلطة الأعلى في الرواية فوزاً مُبرماً، هو الوعي الذي امتلكته تلك السلطة الغامضة بضرورة حرمان البشر من أصواتهم، من كلماتهم، ووعي السلطة الأعلى بضرورة الاستهداف المباشر للفنون. لأنَّ الفنّ خزَّانُ الذاكرة، وهو يقهرُ الاختفاءات، ويقهر السلطات، ويقهر الموت نفسه.
* روائي من سورية