استمع إلى الملخص
- استخدم ساراماغو اللون الأبيض كرمز للعنصرية والاستعمار، منتقداً الصمت الغربي تجاه جرائم الاحتلال الإسرائيلي، معتبراً أن الصمت مشاركة في الجريمة.
- الشجاعة، وفق بول تيليش، تتجلى في نوعين: الديمقراطية والأرستقراطية، وكلاهما ضروري لمواجهة الظلم وتبرير الجرائم ضد المدنيين في السياسات الغربية.
في "العمى"، روايته الأشهر، يجعل الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو (1922 ـ 2010) عميانه لا يُبصرون إلّا لوناً أبيض حليبياً. هذا هو حال العالم المستمرّ منذ قرون عديدة؛ بقادته، ووجوهه التي يقابلنا بها، ووسائل إعلامه. بعض وسائل الإعلام هذه "عربية"، تبنّت سردية البياض، فحالة العمى الأبيض في رواية ساراماغو مُعدية، لا ينجو منها سوى من يمتلك حصانة ذاتية داخلية، وقدرة على مقاومة الانجراف مع التيار الجاري، أمّا "إذا أردت أن تعمى، فسوف تعمى"، بحسب إحدى الشخصيات.
فـ"طوفان الأقصى" بحسب التيار السائد، جاء هكذا، في صبيحة يوم الهجوم مع استيقاظ المهاجمين، مُفرَداً ومفصولاً عن أيّ سياق سابق له وُلد فيه أهل فلسطين، وعانوا خلاله من الاحتلال والتهجير والحصار. وكذلك الهجوم على مشجّعي الفريق الإسرائيلي في العاصمة الهولندية أمستردام ليلة الخميس الماضي (تمتدّ الحالة غير الطبيعية لكيان الاحتلال إلى كون "منتخباته" وفرقه الرياضية تنافس في القارّة الأوروبية ـ بلد أجداد أغلب المستوطنين، ما يجعلها الحالة الطبيعية بهذا المعنى، لا وفق التقسيم الجغرافي المعمول به ـ بعد أن جرى طردها من القارّة الآسيوية قبل عقود) عُرِض في أغلب المنصّات في الساعات الأُولى لوقوعه من دون التطرّق إلى نزع العلَم الفلسطيني المرفوع فوق مُلكيات خاصّة اعتدى عليها الإسرائيليون، ومن دون ذِكر الهتافات والاستفزازات الأُخرى التي أدّت إلى الردّ عليها بما يردع المعتدين.
لم يختر ساراماغو اللون الأبيض الصافي لعميانه عبثاً، بل انتقاه لحمولته الرمزية التي طالما انتقدها، هو المنحدر من بلد استعماري غزا أنحاء عدّة من العالم عبر البحر. فالكاتب الرصين عُرف ببصره الذي يتشكّل بفعل رؤيته بعينيه كلتيهما، وببصيرته التي أبدع بها رواياته التي تنشط أحداثها في الزوايا المظلمة من التاريخ، تلك الأحداث التفصيلية التي كان بإمكانها أن تقلب الحاضر بتغييرات طفيفة. وفيما يختصّ بالاحتلال الاستيطاني الإحلالي في فلسطين، التي تُعتبر أبرز الأمثلة المعاصرة على العنصرية البيضاء، فقد زار ساراماغو فلسطين المحتلّة سنة 2002، وشبّه جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحقّ شعبها، وخاصّة مجزرة جنين قريبة الحدوث، بأنّها لا تقلّ بشاعة عن "أوشفيتز"، كما صرّح بأنّه يفضّل أن يكون ضحيةً كالفلسطينيّين على أن يكون في معسكر القتلة، الذي لا يقتصر بحسبه على القاتل الإسرائيلي الفعلي، بل يشمل كذلك "القتلة بالصمت، أي الغرب وإعلامه".
فضّل ساراماغو أن يكون ضحيةً على أن يكون في معسكر القتلة
هناك نوعان من الشجاعة، بحسب الفيلسوف الأميركي الألماني بول تيليش (1886 - 1965)، أوردهما في كتابه "الشجاعة من أجل الوجود": الشجاعة الديمقراطية، وهي شجاعة الرأي والموقف التي تحلّى بها ساراماغو، والثانية هي التي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، وهي النظير والسند لشجاعة المقاومين في الميدان، أي للنوع الأوّل من الشجاعة، وتُعرف بالشجاعة الأرستقراطية. تقول شخصية أُخرى في رواية ساراماغو: "قد يُسبّب الخوف العمى... في اللحظة التي عمينا فيها أعمانا الخوف، وسوف يبقينا الخوف عمياناً".
لا نحتاج الشجاعة الديمقراطية فقط في البلدان التي ظلّت تُوصف من قِبل الغرب بأنّها ديكتاتورية، حيث بقي صوت الاحتجاج على الإبادة الصهيونية مكبوتاً فيها لأنّها ديكتاتوريةٌ بالفعل، بل نحتاجها في دول الغرب أيضاً، وفي طليعتها الجديدة ألمانيا، التي تُجدّد نازيتها ضدّ ضحايا أحفاد ضحايا نازيتها في القرن الماضي، وإلّا كيف يمكن فهم تبرير وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك عدم تفادي قتل المدنيّين ومخيّمات النزوح والمدارس في غزّة، الذي يناقض اتفاقية جنيف التي تنصّ على حماية الأشخاص المدنيّين في الحروب؟ وكيف نفهم تلويح الدولة الألمانية بتوجيه تهمة معاداة السامية لكلّ من ينتقد المذابح الإسرائيلية، وصولاً إلى سحب الإقامة وحتى الجنسية ممّن يجري اعتبارهم "مناهضين لإسرائيل" (والمناهضة دون العداء)، وذلك ضمن مشروع مسوّدة قانون "حماية الحياة اليهودية"، الذي بدأ الجدل حوله قبل أيام، خاصّة أنّ هناك مئات الآلاف من العرب الذين لجأوا إلى هذه الدولة لعدم قدرتهم على التعبير عن آرائهم بحرّية في بلدانهم.
* كاتب من سورية