"شاعرات من غزّة".. الحرب من بعيد

04 اغسطس 2024
+ الخط -

"تلك الكلمة المقدَّسة" عنوانٌ محيّر إن لم نقُل فضفاض لما يُصنّفه الكتاب "أنطولوجيا مُعاصرة لشعر المرأة الفلسطينية". الكتاب الذي أعدّته وقدّمت له الشاعرة الفلسطينية نداء يونس، والصادر عن "دار مرفأ"، يُبقينا في حيرة من العنوان. الأمر الذي نكتشف، ما إن نتصفّح الديوان، أنّه أيضاً ملغز. في حين نظن أنّه من قبيل اللفظية القومية، وأنّ المقدَّس هنا يُتابع تصنيماً بلاغياً للقضية، أيّاَ كان اسمها، نكتشف أنّ العنوان مقتبَس، بل منسوخٌ من قصيدة للفلسطينية الأميركية نعومي شهاب باي. إذا عدنا إلى القصيدة المعنونة "تلك الكلمة الغامضة المقدَّسة"، نجد أنّ المقدَّس هنا مقدَّس ضدّي، قد يكون لذلك مثارَ تهكُّم، بل إنّه في القصيدة ساقط من عليائه، حيث يغدو هنا الفضلات، وتصحّ فيه السخرية.

"أنحني، أنت تنحني لطبق كبير لامع
يأكل الجميع منه، أجلس في دائرة
حول أرزّك المقدَّس، ردِّد معي
الباذنجان المقدَّس هو ملاكي المفضَّل".

الأنطولوجيا، التي تضمّ 300 صفحة تقريباً، وتنشر قصائد لثلاث وعشرين شاعرة فلسطينية، منهن من تكتب بالإنكليزية وتعيش في المهجر، ومنهن من تفد من فلسطين 1948، ومنهن من تفد من الضفّة الغربية والقدس المحتلّة، ومنهن "شاعراتٌ من غزة". تستحقّ الأنطولوجيا أكثر من مراجعة؛ فهي إذ تُقدّم نصوصاً ضافية لشاعرات اليوم الفلسطينيات، لا تردُّنا فقط إلى فلسطين، ولكن أيضاً إلى الشعر الحديث، وهو يتكوّن لغةً ومناخات وفضاءات في بلد عربي. الأرجح أنّ هذه البلدان، منذ حقبة، بدأت تبني، بلداً بلداً، أدبها الخاصّ. نُميّز هنا، أو على الأقلّ يبقى ذلك موضع بحث، بين بلد وآخر، سورية الكبرى ومصر والخليج والمغرب. سنجد هكذا في الغالب ديناميات مختلفة، وتفاعلات شتّى، ووجهات متعدّدة.

أقف هنا عند "شاعرات من غزّة". إنّهن أربع، اثنتان منهنّ تعيشان واحدة في النروج، والثانية في بلجيكا، فيما الباقيتان، كما نستنتج، ما زالتا في فلسطين. نعرض لشعر الغزّاويات، بالروح ذاتها التي نتابع فيها نزوح الغزّاويين من جهة إلى أُخرى، وأخبار مبيتهم ومجاعتهم وعوزهم إلى كل شيء. ذلك يعني أنّنا نقرأ الشاعرات الغزّاويات كشاعرات أوّلاً. يهمّنا الشعر وحيث لا نجده لا نبحث عن سواه، ولا نستعيض عنه ببديل، أيّاً كان هذا البديل. لكن الشعر هنا ليس غريباً عن المكان ولا عن الواقع، إنّه درجة من توتّرهما وتكوكبهما، أي أنّه ما يضاهيهما، بطريقة ما، أو يقابلهما بأدواته وبنائه ووحيه.

لا تردُّنا النصوص فقط إلى فلسطين، ولكن أيضاً إلى الشعر الحديث

الشاعرة الأُولى بين الغزّاويات هي إيناس سلطان. لا يستفزّنا أن تبدأ: "كلام مبتذل عن شخص لا يقول وداعاً حين يرحل". لا يستفزّنا أن نقرأ لها: "كذبت لمّا قلت أنّي أعرف آخر المشوار من الخطوة الأُولى". يمكن لكلام كهذا أن يكون غزّاوياً، وأن يمتّ، على نحو ما، إلى الحرب الراهنة. لا نعرف تاريخ القصيدة، لكن أيّاَ كان التاريخ، تبقى في القصيدة هنا إشارة غزّاوية. تخطر غزّة اليوم حين نقرأ: "لا بيت لي". لا بدّ أنّنا نتذكّر غزّة حين نقرأ سلطان تتكلّم عن "الطفل الخطأ في العائلة الكبيرة"، كما قد تخطر حين نقرأ لها: "مشيت بحثاً عن مجد شخصي وإن كان مصدره الألم".

لدى فاتنة الغرّة، المقيمة في بلجيكا، نقرأ خلطة شعرية. إنّها نوعٌ يتردّد بين الغناء والتغريب. في الغناء هناك هذه الصلة الرحمية التي يجوز أن يكون وراءها بلد أو ذكرى: "وجدتني قبل ألف عام ملقاة على حافة كتاب".
منى المصدر نقرأ في غضون شعرها عن سائق وبائع عطور، وابتسامة بإلفة نعناع في سوق شعبي. إنّها المدينة، "هنا مدينة يحتمل موتها بالسرطان". هذه القسوة قد تكون ظلّاً لحرب قائمة أو ستقوم، لكنّها بالتأكيد سترد إلى الذهن حين نقرأ صراحة: "وكم مرّة سننجو".

عند هند جودة نقرأ: "أريد أن أخبز كعكة ولا سكّر في المدينة". هذا الكلام يكاد يكون مباشراً، وحين نقرأ: "الحزن هدية العالم لنا، نحن أطفاله الذين لا يكبرون"، نبقى هكذا عند الحسرة الفلسطينية، لكن الانتحار هو نهاية الأغنية: "كلّ ذلك فليأت في كابوس ليلة واحدة، ثم ينتهي إلى الأبد".


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون