سيمونه لابرت في "القفزة": الرواية كتجربة اجتماعية

13 سبتمبر 2024
غلاف الرواية
+ الخط -

ليس بوسع القارئ أن يقع بالضبط على مجال الاضطراب الذي يسود رواية "القفزة" للكاتبة السويسرية سيمونه لابرت (1985)، وهو اضطرابٌ لهُ ما يسوّغه في النص، إلّا أنّ الوضوح الذي تظهر بهِ الشخصية التي تريد أن تقفز عن السطح، يصبح مع تقدّم النصّ وضوحاً خادعاً، كما لو أنّ الرواية ليست عن تلك الفتاة التي تريد أن تنهي حياتها، بل هي عن الجمهور الذي يشاهدها، عن أولئك الذين احتشدوا أسفل البناء وأخذوا يهتفون لها كي تقفز.

الرواية، الصادرة عن "دار الكرمة" بترجمة سمير جريس عن الألمانية، تتحدث عن جمهرة هؤلاء المتفرّجين، أكثر ممّا هي عن البستانيّة التي حُجزت على الشرفة، ثمّ صعدت إلى السطح، وقرّرت أن تقفز. حتّى إنّ المساحة السردية التي لفتاة العرض هذه، هي الأقل. إذ يتبادل السردَ أشخاصٌ آخرون، أهلُ البناء، وبعض أهل الحيّ، وعابرون. وما جوهر تلك القفزة التي ينتظرها القارئ طوال يوم كامل في رواية استغرقت 328 صفحة، إلّا تلك الومضة التي يقرّر فيها أحدهم أن ينبّه الآخرين إلى خلوّ عيشهم، وبرود علاقاتهم وزيف إنسانيتهم وتعاطفهم.

مع ذلك، فالصدمة تبقى متّقدة لدى القارئ، لأنّ أحدهم يرمي الآخرين بالقرميد، لأنّ أحدهم قرّر أن يقفز عن السطح، كما شعرت البستانية وهي تخطو خطوةً في الخلاء أنّها تخطو خارج الموت، وباتجاه الحياة. "القفزة" إذاً، تقصد العطب الذي أصابَ الحياة نفسها. وقد اختارت لابرت لتعرض مقولتها شخصيةً درست علم الأحياء ثمّ تفرّغت لرعاية النباتات. وهي شخصية تنطوي على حساسية تدفعها إلى أن تجعل من حياتها صرخةً، قفزةً في السكون، حتّى إنّه ليس سكوناً، بقدر ما هو استنقاعٌ وركود. وموضوع الرواية ليس ما تُظهره كلماتُ امرأة غاضبة، بل هو السلوكيات التي نراها للجمهرة، إذ يطالب أحدهم بأن تُقتل الفتاة بالرصاص، وآخر يطلب منها أن تتعرّى، وآخر يطلب منها أن تتحمّل تكاليف تعطيل الحياة العامّة في الحيّ، وتعطيل رجال الشرطة الذين احتشدوا لمنع الانتحار. وكانت الجمهرة قد احتشدت، وكأنّها في عرض مفتوح، وكأنّها في مهرجان، بعد أن توزّعوا على الكراسي.

يقرّر أحدهم أن ينبّه الآخرين إلى زيف إنسانيتهم وتعاطفهم

الرواية في أحد أشكالها تجربة اجتماعية مثل تلك التي يجريها باحثون كي يختبروا حقيقة البشر، ومدى قبولهم للعنف، ومدى سلوكهم مسلك الإذلال والإهانة لبعضهم. والروائية هنا، ومن هذا الجانب بالتحديد، باحثة اجتماعية تعرض علينا هذا الاختبار الجماهيري لأحدٍ يريد أن يرمي نفسه على الملأ، وأمام عدسات الصحافة، فيما احتشد أهل الحي كيّ يتفرّجوا، كي يضجّوا، لا كي يمنعوا الانتحار.

لكن يبقى هذا جانباً محدوداً من الرواية التي تشتمل على شخصيات عديدة، بدورها تعرف صعوبات حياتية بسبب طبيعة مهنهم؛ مثل الشرطي الذي يتعامل خلال ثلاثة أيام مع محاولتَي انتحار، فيما علاقته بزوجته تتعرّض لخطر التباعد بسبب حالته النفسية. كذلك البائعة في الحيّ التي يساعدها العرض المفتوح للموت، كي تنعش متجرها الصغير، وعلاقتها الحميمة بزوجها، قبل أن يموت بصورة مباغتة. حتّى العاشق الذي أحبّ البستانية استمرّ يعتقد بوجود الوقت الكافي لفهم وتصحيح كلّ شيء.

الرواية تحذّر قارئها من أنّ الوقت الذي يعتقد أنّه يمتلكه كي يصوّب مساراً، ليس إلّا وقتاً منهوباً، لا يمكن توقّع ما يحمله، ولا يمكن إمساكه أو السيطرة عليه. على عكس ما يتبدّى للقارئ في البداية وهو ينتظر حدوث تلك القفزة، وهو ينضمّ إلى جمهرة المتفرّجين؛ النصّ إشارة كي نرى، إشارة كي نلتمس عذراً، إشارة كي نكشف عن عطب أو عن مسرّة. وكأنّ القفزة أخيراً، تحدث داخل حياتنا، داخل القارئ.


* روائي من سورية

المساهمون