استمع إلى الملخص
- المعارضة السورية نجحت في تحرير البلاد، مما يتيح للمثقفين فرصة للمشاركة في بناء المستقبل، مع التأكيد على أن التحرر الفكري يعزز قيم الحرية ضمن إطار ديمقراطي.
- من الضروري إشراك المثقفين في صياغة رؤى المستقبل وتوجيه النصر لتحقيق أهداف الثورة، مع إنشاء هيئة من المفكرين لتقديم توصيات تضمن عدم ضياع التضحيات.
انهار نظام الطاغية في غضون أيام قليلة، وهو ما سرّع تفاهمات القوى المؤثّرة. كان السقوط مدويّاً. ما لم يكن متوقّعاً سرعته المفرطة. عاش العالم حالة ارتباك أعقبها ارتياحٌ كبير في أغلبية أوساط الشعب السوري وصدمةً لدى "المناصرين". لكنّ هذا المشهد المعقّد يكاد يخلو من دورٍ للمثقّف ومن صوته الذي كان من المفترض أن يوجّه حركة التاريخ هذه ليعطيها معنىً معقولاً. فلماذا غاب هذا التوجيه ولِحساب من؟
ليست هذه هي المرّة الأُولى التي تسبق فيها انعطافات التاريخ تنظيرَ المثقّفين ولا تتوقّف عليها؛ فقد استعرت الثورة التونسية بعيداً عن توجيهاتهم، وكذلك كان الشأن في "ربيع" مصر واليمن ولبنان. والسرّ في ذلك أنّ التدمير الذي لحق بسورية وآلة القمع التي عملت في هذا البلد لعدّة عقود، أفرغت الثقافة النقدية من كلّ مضمون وهمّشت دور المثقّفين إلى درجة الصفر. لم يُبقِ منهم النظام البائد إلا من وظّفهم لتبرير سياساته وحتى جرائمه.
أمّا البقية الباقية، فقد هاجرت إلى بلدان الجوار أو إلى أوروبا، وأصبحت هنالك بلا "شرعية"، ينقصهم الدافع "العضوي" الذي تحدّث عنه غرامشي، وهو الالتحام بمعاناة الشعب في الداخل من أجل التعبير عنها وامتلاك جدارة الريادة الفكرية لها.
حقّقت الفصائل المعارضة التحرّر المباشر من أثقال القهر، وهذا التحرّر هو جوهر الثقافة وغايتها الأوّلية. إذ ليس من الوارد أن يخوض الدارسون والمفكّرون في قضايا الذهن ومنظومات القيم والوجود من دون تحقّق الشرط الأوّل، الحرّية، وعلى الأقلّ الحدّ الأدنى منها الذي يتيح معالجة قضايا الفكر.
المفكّرون السوريون أساسيون في مسار إعادة بناء بلدهم
فرغم اختلاف مشاربها، تحقّق تحرير البلد بصمود المعارضة، ثمّ بنظرات ذكاء سياسي نأمل أن يتواصل خلال قيادة المرحلة اللاحقة، مع ضرورة فسح المجال للعقول السورية - وهي كثيرة - لتُسهم في رسم مسارات التاريخ المقبلة، وحتى يكون لهم دور يؤدّونه مع رفاقهم من الساسة والعسكريّين ونشطاء المجتمع المدني في إضفاء معنىً عقلي، عادل وإنساني على هذا المنعطف. فبعد أن تقدّم الدم على القلم، طيلة السنين الماضية، حان الوقت لإعادة الاعتبار للعقل النظري حتى يصوغ خطاب التحرير ويرسم مسارات الحركة التاريخية لهذا البلد، مع مراعاة خصوصياته الطائفية والسياسية، وهي ليست بالهيّنة.
المعارضة التي قادت هذا التغيير الجذري مَرجعها ديني، وهذه صورةٌ تُثبت مدى تهافت التهم الاستشراقية التي سادت من قرون، والتي ترمي هذا المرجع بالتعارض مع الحرّية، كما تؤكّد أنّ التشوّف إلى كسر القيود - وهو جوهر الثقافة كما أسلفنا - قيمة رئيسية في الفكر الإسلامي ولا تتنافى مع مبادئه، شريطة أن يكون هذا التحرّر في سياقه التلقائي لممارسة الفكر الحرّ والتعبير عن الاختلاف، الذي طالما وُصف بأنّه "رحمة"، ما دام يجري في إطار ديمقراطي ويخضع لقواعده الكونية.
فالمأمول أن تسمح سلطات سورية الفتيّة بإدماج المفكّرين السوريّين - وهم كُثر - في مسار إعادة بناء هذا البلد، وأن تكون نقاشاتهم وأنظارهم مستنداً رئيساً في استشراف معالم مستقبل المنطقة بتنوّعها الكبير، والذي يجمع بين مكوّناته تراث إنساني متعدّد تغذّيه روح فنّية وحضارية تليدة.
التشوّف إلى كسر القيود قيمة رئيسية في الفكر الإسلامي
ولا بد أن يُعوَّض غياب المثقّفين في أطوار الثورة الماضية بإشراكهم اليوم وبكثافة في صياغة رؤى المستقبل، حتى يسهم المثقّف في صنع العهد الجديد بعيداً عن حماسيات الانتصار أو حمّى الانتقام. فدور المثقّف، كما كان دائماً، هو ربط الماضي بالحاضر من أجل استشراف المستقبل، حيث تعمل قواعد العقل جنباً إلى جنب مع متطلّبات السياسة الراهنة. فالمثقّف الذي نقصده هنا عقلٌ كبير لا يسقط في حمأة الأحداث، بل يتعالى عليها، يراقب جرَيانها ينتقد تلاعبات الخطاب عنها ويفضح تضليلها، يستفيد من تراكم المعارف والأخلاق و"تجارب الأمم"، ينتقي منها ما يصلح لقيادة المرحلة واستشراف ما يليها.
لذلك، سيكون إبعاد المثقّفين والجامعيّين من دائرة القرار، في هذه المرحلة الحرجة، نذير فشل لهذا التحرّر، يُعزّز مخاوف الداخل والخارج، وقد يدفع البعض إلى الحنين إلى حقبة الديكتاتورية كما حصل في العراق وتونس وليبيا. وعلى المثقّفين، الذين انزووا بسبب القمع، وجلُّهم معذور، ألّا يسرقوا هذا النصر، بل أن يُسهموا في تعزيزه لإعطائه الوجهة التي تكلّل تضحيات ثلاث عشرة سنة من المعارك والدمار، والتي راح ضحيتها نصف مليون شهيد.
فحتّى لا تذهب هذه التضحيات سدىً، لا بدّ أن تكون للمثقّف كلمته، التي يرفع بها الساسة والعسكريّين عن زَبَد الأحداث المتسارعة، والتي إن لم يُحكم توجيهها قد تأخذ البلد إلى مصير مجهول وتوقّعه بين براثن الاستبداد، التي من أجل كسرها بُذلت تلك التضحيات.
عملياً، يجدر التفكير في إنشاء هيئة من كبار الأساتذة والمفكّرين السوريّين، للبدء دون تأخير في مناقشة وجهات العمل السياسي والتحرّكات المجتمعية والقانونية وصياغة توصيات جليّة يستأنس بها أصحاب القرار قبل أن تُفسد "لعبة الأمم" هذا النصر وتسرقه فتُعيد تحويله إلى أداة لتحقيق أغراضها الجيوسياسية. التحرُّر جوهر الثقافة وهي أداته وبوصلته. ولن يُفضي إقصاء أحدهما عن الآخر إلّا إلى ضياع.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس