تحت عنوان "وأنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد"، المقتبس من قصيدة لمحمود درويش، أُقيم مؤخّراً في صالة "آرت سين" ببيروت معرض للفنان العراقي رياض نعمة، قدّمه في بطاقة المعرض الفنان العراقي ضياء العزاوي. لن يكون العنوان نافلاً أو اعتباطياً، فالأرجح أن المعرض (الذي اختُتم في الخامس من الشهر الجاري) يكاد يتبعه ويرويه، في العديد من لوحاته.
فكأن المعرض، بكامله، قائمٌ حول هذه العبارة، التي تعني للعراقي العائش في المنفى اللبناني، ما كانت تعنيه للفلسطيني الذي أمضى وقته كفلسطيني في المنافي والشتات، بدون أن يجعله ذلك أبعد، بل كان، في غربته وابتعاده، يقترب أكثر فأكثر، وكأن المنفى هو الطريق المفارق إلى البلاد.
لا نشكّ في أنّ نعمة يعني بالبلادِ العراق، الذي لن تكون المنافي سوى العودة المفارقة إليه. يمكننا لذلك أن ننظر إلى المعرض على أنه يعبّر، لوحة لوحة، عن هذه العودة، عبر المنافي وخلالها، عن هذا البُعد المضاد الذي يحمل مفارقة القرب والرجوع. إنه الرجوع المضاد، الذي يتقدّم المعرض ليرويه. المعرض هو روايته على نحو يرصد خطواته، واحدة واحدة، ويواكبه من موقع إلى آخر، ويبتكر له استعارات ورموزاً. بل هو سرد له وحكاية ومسرح. حين نرى صور الأبناء وهم يديرون ظهورهم ساعين في الطريق، فنحن هنا أمام الذهاب المفارق الذي يحمله الابن (لماذا الابن؟)، دامغاً دمغة حمراء على ظهره. أكثر من ابن، وجميعهم يستديرون بظهورهم وعليها تلك الدمغة الحمراء على حقيبة الرحيل.
لن تكون هذه الدمغة الحمراء سوى العودة المضادة. لن نرى وجوهاً، بل سنرى أجساداً مبنية ومرصوصة، أجساداً عائلة في رحيلها. إنها مبنية جاهزة للعودة، التي ليست أمامها بقدر ما هي محمولة على مناكبها، بقدر ما هي دمغة حمراء. الأبناء هكذا يحملون قلوبهم على ظهورهم، بقدر ما أنهم يعودون من وراء أنفسهم وعكسها.
وجوه لا تطلّ علينا، وإذا أطلّت فبتقاسيم مصنوعة من العتم
سنرى أيضاً هؤلاء الواقفين بما يشبه ثياباً مرقّطة. إنهم قريبون من الجنود بدون أن يكونوا جنوداً. هؤلاء لا يديرون ظهورهم، لكنّهم، وهم يستديرون إلى الأمام، لا يملكون رؤوساً أو وجوهاً. إن رؤوسهم ووجوههم، هذه المرّة، فائضة عنهم، مختلطة بهم. إنها هذه المرّة غائبة، ليست حتى قناعاً، إنها مجرد قطعة من ثوب، أو مجرد تكتيل ورأس ذائب معجون. لا نزال مع ذلك في الرحيل والعودة المفارقة، لن يكون للوطن وجه، لن يكون له عيون، لن يكون سوى هذا الغياب الدامي، إذا تذكّرنا الدمغة الحمراء.
سيكون مثله في ذلك مثل الراحلين إلى الأطراف والمنافي، مثلهم سيكون مدموغاً بهذه المفارقة. مثلهم سيكون أيضاً هذا الرحيل المضاد. لن تكون البلاد سوى هذه الدمغة الحمراء على الظهر، تلك الدمغة الدامية التي نحملها على عواتقنا. إنها فقط ذلك الابن الضائع، بقدر ما هي ذلك الجندي المتهدّل، المسكوب على نفسه، الجندي الضائع في جلده وفي كلّ مكان.
لن يكون هناك وجه ولا رأس، هناك فقط هذا الوجود الموحِل لِما يقترب من أن يكون جندياً. سيكون فقط ساعداً وجذعاً، لكن مهلاً، سنرى أخيراً الوجه والرأس يُطلّان من تحت القلنسوة. الوجه هنا، وهذه المرّة، يطلّ من العتم، بل هو، على نحو ما، مصنوع ممّا يشبه أن يكون عتمة. الآن هناك وجه، وهناك نظرٌ إلى الأمام، لكنّ الأمام مفقود، الأمام غائب بالقلنسوة. إنه أمامٌ من المادة ذاتها التي يُصنع منها الوراء. هناك وجه لكن من المادة ذاتها، من التعبير ذاته، اللذين يخفيانه ويغيبانه. لقد وجدنا الوجه، وجدنا الرأس، لكن أي وجه وأي رأس؟ إنه وجه لا يتطلع إلّا إلى نفسه، بل هو يكاد أن يكون ابتلع الأمام. إنه ينظر، لكنّ نظره يكاد يكون من غضونه، ومن تجاعيده.
كم يحتاج الفنان إلى جهد ليقول ذلك؟ رياض نعمة يستطيع أن يقوله. إن قوة التعبير وقوّة الرسم تُضافان إلى الحكاية، في هذه البلاد التي نراها في الوحل الزخرفي الذي ينسكب على الجسد، لهذه البلاد ليست الآن لتعطي وجهاً أو رأساً. إنّها هنا تخرج من تحت القلنسوة كقناع، وكصورة لِما لم يعد وراء متواصلاً، لم يعد سوى الرجوع المضاد.
* شاعر وروائي من لبنان