غادر عالمنا، الخميس الماضي، عاِلمُ الاجتماع التونسيّ، عبد الوهاب بوحديبة (1932 - 2020) بعد مسيرة توقّدت لأكثر من خمسة عقودٍ قضاها في إجراء الأبحاث السوسيولوجيّة واستعادة أمّهات قضايا مجتمعاتنا العربيّة-الإسلاميّة. تلقّى الرّجل تكوينًا مزدوجَ اللغة والآفاق والمرجعيّات، بين رحَبَات المعهد الصّادقي بتونس، أربعينياتِ القرن الماضي، بعد أن تشرّب نصوص التراث الإسلامي، وأروقة "جامعة السوربون" بفرنسا، إبّان ذروة اكتمال نظريّات علم الاجتماع والفلسفة، وفيها تمكّن من المناهج الوصفيّة التي تحدد الإنسان بِبعده الجماعيّ لا الفرديّ، وتعتبره نتاج الإكراه لا وليدَ الحرّية.
ولم ينقطع بوحديبة، منذ بِداية الستينيات حتّى 2018، عن تطبيق مختلف الأجهزة المفاهيميّة، على امتداد عشرين مؤلفًا، تناولتْ حقولاً واسعةً ومتباينة من المَعيش اليوميّ للإنسان المسلم. ويمكن تقسيم أعماله إلى قسميْن كبيرَيْن، بينهما نصوص لا تُصنّف.
من جهة أولى، تَطرّق الرّجل إلى جوانب من التحوّلات الاجتماعيّة التي طاولت مُجتمعات المغرب الكبير، وخصوصًا تونس، فدَرَس مسألة الجرائم (1965) ومسارات التصنيع التي اجتاحت الأوساط الزراعيّة (1968)، وتطوّرات العدالة في تونس (1971)، والمخيال الاجتماعيّ المغاربيّ من خلال قصص الأطفال (1994)، وغيرها كثير.
مثّل مشروعه جذوة التقاء السوسيولوجيا بالإسلام
ومن جهة ثانية، توجّه بوحديبة، يعضده تكوينٌ فلسفي متين، إلى دراسة تحدّيات عيش الإسلام في العصر الحديث، حيث استكشف رهانات المواجهة بين نصوصه المقدّسة، التي تنتمي إلى سياقات ثقافيّة مضت، وبين تحوّلات العالَم المعاصر. وبدأ بالتصَدّي لإحدى أعقد القضايا الإنسانيّة، وهي مسألة الجنسانيّة ضمن الفضاء الحميميّ الذي اعتبره مَجال قَيْد بامتيازٍ: ففيه تُكبت سورات الجسد، وفي ذات الآن يقدّسها الإسلام. فقد أبان في كتابه المرجعي "الجنسانية في الإسلام" (1975) عبر مسح شامل للخطابات الأدبيّة والتاريخيّة والدينيّة، أنّ الإسلام لم يحتقر الجسدَ قدر ما قدَّسه، ولم يقيّد سورَتَه قدر ما دعا إلى تلبية رغباته ضمن منطق عِمارة الكون واحترام التوازن بين الجنسيْن وآليات التماسك الاجتماعيّ وضَبط دوائر الحلال والحرام.
وأمّا في كتاب "الإنسان في الإسلام" (2006)، فقد تحدّث عن التصوّر الديني لمكانة الإنسان في الكون ونظام الحياة والتوازن الأصلي الذي عليه أن يحافظ عليه. وفي كتاب "ثقافة العِطر في الإسلام" (2017)، حلّل الرؤية القيمية التي تحملها هذه الديانة لممارسة التعطير وارتباطها بالجسد والشعائر والمجتمع، وكان منهجه يقوم على المقارنة بين نصوص الفقهاء وما ورد في كتب الأدب والتاريخ والأخبار من إضافاتٍ، تُعارض تلك الرؤى أو تُنَبِّلها.
وفي كتاب "الإسلام: انفتاح وتجاوز" (2018)، وهو آخر ما أصدره، دعا إلى تدبّر نصوص الإسلام الأوّل باعتباره خزّانَ قيمٍ إنسانيّة وحضاريّة تنطوي على الأبعاد الكونيّة التي رسمت "عظمة" رسالة الإسلام على اختلاف الدهور والأمصار، ودلل على أنّه بُنيَ من خلال المثاقفة والحوار مع سائر السُّنَن الثقافيّة للعالَم.
ومن أطرَف كُتُبه، وهي ممّا لا يُصنّف، "على خطى ابن خلدون" (2006) وفيه تتبّعَ مراحل هذا الرجل الفذّ، في كل طورٍ من أطوار حياته، محلّلاً ما كابَده من رِيب الدهر وتقلّبات السياسَة مضيفًا لها صورًا حقيقيّة عن كل ما وَرَد فيها، فغدت حياة مؤسس علم الاجتماع مرسومةً بالكلمات والخرائط والأشكال مع تحليل الظروف الاجتماعية والسياسيّة التي حفّت به، فضلاً عن الجدالات الفقهية التي واجهها مع علماء عصره.
وإلى جانب النشاط العلميّ، كان لبوحديبة نشاطٌ جامعيّ كبيرٌ، فلعلّه أوّل من أرسى تَعليم مواد علم الاجتماع، في أروقة الجامعات التونسيّة، بعد أن ضبط مناهجها ورسم مقرّراتٍ لها، تَجعل من مقاربة الظواهر المعيشية موضوعًا للوصف والتحليل لا مسلكًا للتلاعب تضخيمًا وتمجيدًا.
هذا وقد ترأّس "المجمعَ التونسي للعلوم والآداب والفنون" (بيت الحكمة) طيلة سنواتٍ، أشرف خلالها على إنتاج العديد من الأعمال وترجمتها، فضلاً عن إدارة "مركز الدراسات والأبحاث الاجتماعيّة والاقتصاديّة" وعضويته في المجامع اللغوية-العربية، بالقاهرة ودمشق، حيث كان الرجل من إتقان اللغتيْن، العربيّة والفرنسية، في المحل الأعلى فقد طوَّعَهما لوصف الأعماق الاجتماعيّة لنسيج الحياة المغاربيّة، مع أنها نشأت لوَصف رهاناتٍ غير رهاناتنا، وله الفضل في توليد العديد من المصطلحات الوصفيّة لهذا العِلم.
انشغلت أبحاثه بالتحوّلات التي طاولت المجتمعات المغاربية
وهكذا، تكمن قيمة الرجل في توسيع النظرة السوسيولوجية إلى القضايا العربية الإسلاميّة وانتقاد المقولات الاستشراقيّة الضيّقة، حيث كان من أوائل من وَظّف المبادئ الكونيّة للسوسيولوجيا، بعد تَبيئتها وتكييفها في سبيل إضاءة تلكَ الظَّواهر، دون إسقاطٍ ولا مغالطة.
ففي كتاباتِه، صار الإسلام ظاهرةً تُدرس لا معطًى مقدّسًا لا يُلمس، داعيا طيّ ذلك إلى قراءة نقديّة منفتحة له، تتخلّص من الحرفيّة في التأويل وتستعيد القيم القرآنيّة الأصيلة، بعد أن ينزع عنها غطاء الصّراعات الاجتماعية المحايثة.
فِكْر الرجل راهنٌ أكثر من أي وقتٍ مضى ومن الضروري مزيد نَشره وترجمة الغائب منه. فهل يوجد بيننا اليوم من علماء الاجتماع العرب من يُبقي جذوة التقاء السوسيولوجيا بالإسلام متقدة استكمالاً لمشروع عبد الوهاب بوحديبة؟
المسألة حاجة حضارية، إذ كيف تتلمس المجتمعات طريقَها ومصيرها دون أدوات العلم الذي وضع بَذرَته ابن خلدون وأينعت ثماره في الغرب، وبقي العَرب أقل من يَستَمريها.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس