دارفور في القرن التاسع عشر: اللغوي التونسي اضطر أن يصبح أنثروبولوجياً

07 اغسطس 2021
مشهد طبيعي من دارفور (Getty)
+ الخط -

حظيت رحلة العلَّامة اللغوي محمد بن عمر التونسي إلى إقليم دارفور في العام 1803م، باهتمام غير عادي من جمهور المستشرقين. حتى أن ترجمتها الفرنسية صدرت قبل طبعتها العربية بسنوات عدة، ويرجع ذلك إلى فشل الرحالة الغربيين في الوصول إلى هذا الإقليم السوداني المهم ووضع دراسات عنه، في وقت كانت المنافسة على أشدها بين باريس ولندن لاستعمار القارة الأفريقية. والرحالة الأوروبي الوحيد الذي وصل إلى دارفور قبل رحالتنا التونسي؛ كان البريطاني ويليم جورج براون الذي مكث فيها ثلاثة أعوام شبه سجين، من العام 1793 وحتى العام 1796م، بسبب ارتياب سلطان دارفور عبد الرحمن الرشيد به وبمقاصده، فلم يستفد من رحلته في شيء، ولم يستطع الحصول على أي معلومة تساعده في دراسته.

وقد تنبه لهذا الأمر المستشرق الفرنسي نيكولاس بيرون حين حدثه التونسي عن رحلته إلى دارفور، فطلب منه تدوينها، ليقوم هو بترجمتها وتقديمها إلى الجمهور الفرنسي. ففعل؛ وصدرت هي ورحلة أخرى إلى إقليم وداي في تشاد الحالية بطبعتين فرنسيتين أنيقتين.

وجاء في مقدمة الرحلة الدارفورية المعنونة بـ "تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان"، أن هدفه لم يكن الاستطلاع والدراسة، ولكن اللحاق بوالده وجده اللذين رحلا وتزوجا من أهلها في أوقات سابقة، حيث أصبح له أخوة وأعمام في ذلك البلد، كانت لهم مصالح تجارية، ومراكز سياسية رفيعة، ومكانة دينية مرموقة، ومن هنا كان اتصاله مع ملوك ووجهاء دارفور، مما أتاح له الإلمام بتاريخها وأحوالها.


السفر في النيل

يقول رحالتنا في سرده لوقائع الرحلة التي بدأت من القاهرة: "كنا قد أقلعنا بريح طيب ظل معنا يومه، وسفينتنا تميس به عُجْباً، وتتمايل بحسنه طرباً، وقد ملأ شراعها، وأطال في المسيرِ باعها. وعند المساء سكن الهوا وبطل هبوبه، وفقد شماله وجنوبه، وقد جئنا مقابل المنية، وكان فيها جماعةٌ من الغُزِّ، الذين ابتزَّ الله منهم حلة العزِ، فأخذونا بالقوة والقهر، وأمالوا سفينتنا إلى جانب البر، وكان معسكرهم مخيماً في عرض البلد على النيل. وكانوا مقيمين هناك لنهب السُّفار المارّين. فغرموا صاحبنا جملة من المال، وبعد الخلاص أقلعنا عنهم في الحال".

ويضيف: "في عشية اليوم الخامس، وردنا محلاًّ يقال له الشب، وهو محل بين غرود من الرمل، عليه ريح الوحشة قد هب، فأرحنا فيه يومين وارتحلنا، وللمفازة الثانية دخلنا، فقطعناها عنقاً وذميلاً في مدة أربعة أيام، نزلنا في ضحى خامسها ببئر يقال لها: سليمة، وبهذا البئر رسوم أبنية قديمة، وهو في عرض جبل يسمى بهذا الاسم أيضا، فمكثنا فيه يومان، حتى قضينا منه غرضاً. ومن خواص هذا المحل، أن الحال به يستأنس به، ولا يستوحش منه. حجارة ضخمة تصوت كالطبول ومن العجائب أن الشبان من أهل القافلة يصعَدون على الجبل الذي هناك، ويضربون الحجارةَ بعصي صغار كما يضربون الطبول، فيسمع لها صوت كالطبل، ولا يعرفُ سبب ذلك، أهو تجاويف في الحجر، أو هي موضوعة على خلو؟ فسبحان من يعلم حقيقة ذلك".


الانتقال إلى البر

ويتابع واصفاً محطات الطريق: "ثم ارتحلنا صبيحة اليوم الثالث بعد ملء أدوات الماء ودخلنا مفازة، سافرنا فيها خمسة أيام، وصلنا في ضحى سادسها إلى محل يقال له: لقية. فوجدنا هناك آباراً محاطة بالرمل، وماؤها عذب زلال. وقبل وصولنا لهذا المحل عرضت لنا قافلة صادرةٌ من بئر النطرون المسَمَى بالزغاوِي، وأهلُها من عرب يقال لهم: العمايم، فقابلونا بالسلام، ثم انصرفوا عنا بسلام".

ويبدو أن الرحلة صارت برية في هذه المرحلة إذ يقول إنهم ارتحلوا بعد قضاء يومين في لقية إلى الزغاوي "وإذْ بهجَان أقبل من ناحية دارفور يخبر بوفاة المرحوم الملك العادل المجيد، السلطان عبد الرحمن الرشيد، ملك دارفور وما والاها، وسلطان أقصاها وأدناها؛ وأنه ذاهب إلى مصر لتجديد الخاتم الذي تختم به الأوامر السلطانية، لعدم (وجود) من يتقنه هناك، لابنه السلطان محمد فضل، وذلك لليال مضت من رجب الفرد سنة 1218هـ/ 1803م. فحزن أهل القافلة على موت سلطانهم، وخافوا من وقوع الفتن في أوطانهم، لأنه كان سلطاناً عادلاً كريماً، مُحباً للعلم وذويه، مبغضاً للجهل ومن يليه".


عند الزغاوة

وبعد خمسة أيام وصلوا إلى بئر الزغاوي التي تسمى أيضاً بئر النطرون، والمسافة بينها وبين دارفور عشرة أيام كاملة، كما يقول. فأقاموا هناك أحد عشر يوماً، لراحة الرواحل كي تقوى على السفر في الصحراء القاحلة. ويشير إلى اجتماعهم هناك بأعراب البادية من دارفور، حيث أتوهم بلبن الإبل وسمنها، فاشتروا منهم ما احتاجوا إليه. وكان هؤلاء الأعراب قد أتو إلى هذا البئر ليأخذوا منها ملحاً ونَطروناً لدارفور، لأنَّ النَّطرونَ، وهو ملح معدني يستخدم كثيراً في تلك الأصقاع، لا يجلب إلا من هناك.

ارتحلت القافلة من بئر الزغاوِي، وسارت عشرة أيام سفر بشكل متواصل، فوصلوا في صباح اليوم الحادي عشر إلى موقع يدعى المزروب، وهو بئر في أول أعمال دارفور، وقبل وصولهم بحوالي ثلاث ساعات جاءهم الأعراب بقرب من الماء واللبن، فاستبشروا بالسلامة، ثم نزلوا البئر المذكورة فأقاموا فيه يومهم، وفي الصباح ارتحلوا نحو أربع ساعات، ووردوا بئراً يقال لها: السُّوينَة، وهناك قابلوا قائد الولاية وحاكمها، وكان يسمى الملك محمد سنجق، وهو قائد الزغاوة، والزغاوة قبيلة افريقية كبيرة. وكان معه حوالي خمسمائة فارس؛ فسلَم على أهل القافلة، وهنأهم بالسلامة.

من السوينة تفرقت القافلة كل باتجاه مقصده، ويقول رحالتنا: "لأن أهل القافلة لم يكونوا من بلدة واحدة، فأكثرهم من بلدهم المشهور المسمى كوبيه، وبعضهم من كبكبابِية وبعضهم كالسيد أحمد بدوي صاحبي من سَرَف الدجاج، وبعضهم من الشعيرِية، وبعضهم من جديد كريو، وبعضهم من جديد السيل. فذهب كل منهم في مذهبه، وأخذنا طريق سرف الدجاج، فسافرنا سفراً هيِناً نحو ثلاثة أيام، ونزلنا في رابعها قربَ الظهر في ظل جبل بقرب بئر، فقلنا هناك".


لقاء العم وضيافة أحمد البدوي

يخبرنا التونسي أن الكثير من الناس جاؤوا للتهنئة بالقدوم، ومنهم ابن السيد أحمد البدوي، وكان معه عبيد وخدم بأطعمة كثيرة. ويقول: "تغدَّينا وأقمنا حتى أنَهَرَ النهار، وأخذ الشمس الطفل والاصفرار، ثم حُملتْ الأحمال، ورُفعتْ الأثقال، فلم يأتِ المغرب إلاّ ونحن على ظهور رواحلنا مقلُون، وعلى الجادَّة سائرون. فدخلنا سَرَف الدجاج بعد العشاء، وبتنا تلك الليلة في مشقة من كثرة المسلمين، وازدحام الداخلين والخارجين، ومع ذلك لم يتهاون السيد أحمد بأمري، ولا شغلهُ ما هو فيه عني، بل أَفرد لي حجرة، وجعل فيها من الفرش والآنية ما أحتاج إليه، وأنا لا أعلم ذلك، بل حين طال علي السهر دخلتُ عليه، وقلت له: أين أنام؟ فنادى بأحد العبيد وقال له: أَرِ سيِدك حجرته. فأخذني وأدخلني حجرةً رأيت فيها سريراً وفرشاً وآنية، بل وجميعَ ما أحتاج إليه. وبِتُّ بأنعم ليلة، حتى إذا أصبحت لبست ثيابي ودخلت عليه، فوجدته جالساً في أُبهة عظيمة، بين خدمه وجواريه وأولاده، قارَّاً سارَّاً، كأنه لم يكن مسافراً".

وبينما كان رحالتنا بضيافة بعض أصحابه دخل عليه عمه شقيق والده بصحبة رجل سوداني، ولم يعرفه لأنه كان ذو هيئة تشبه الأحباش لأنه أمه كانت من دارفور. وقد روى قصة هذا اللقاء كما يلي: "سألني: أنت من هنا فأجبته: لا، أنا من مصر جئت ملتمساً لأبي. فقال: ومَنْ أبوك؟ فقلت: أبي السيد عمر التونسي. فقال لي السوداني: سلم عَلَى عمك السيد أحمد زَرُّوق. فسلَمت عليه حينئذ. وبعد السلام أخرج لي مكتوباً فيه بعد السلام: إنه قد جاءنا كتاب من ولدنا السيد محمد، أخبرنا فيه أنه قدم صحبتك وفعلتَ معه من المعروف ما أنت أهله، فجزاك الله عنا خيراً، وهذه منة لا أكاد أقوم بشكرها، وصنيعة لا أقدر على مكافأتها، ومن المعلوم أن المهاداة سُنَّةٌ من أول الزّمان، وقد قَبِل الهدية سيِد ولد عدنان، ولذا قال عليه صلاة ربنا المنان. تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء من قلوبكم. وقد أرسلت لحضرتك صحبةَ أخي السيد أحمد زَرُّوق عبدين سداسيِين ومهراً أحمر، أرجو من سعادتكم قبولهم، وهم على مقامي، لا على قدر مقامك ومنا السلام عليكم وعلى أولادكم وأهلِ منزلكم، ومن يحويه مجلسكم السعيد. وقال لي: خذ هذا الكتاب واقرأه على عمك السيد أحمد".

ويقول إنه ذهب إلى السيد أحمد البدوي وقرأه عليه، وأحضر له الهدية فرآها وبارك فيها، ثم قال: "إني قبلتها ووهبتها لابني هذا". وأشار إليه. فألح رحالتنا، لكن السيد أحمد واصل تمنعه وقال إن في رقبته جميل صنعه والده عمر التونسي لو أنه أفنى أمواله كلها في مرضاته، لما كان ذلك جزاء له، وهنا تجاسر محمد بن عمر وسأله أن يقص عليه قصة المعروف الذي صنعه معه. فقال: "اعلم يا ولدي أن أعدائي وشوا بي إلى حضرة السلطان بأني أبيع الأحرار، وزخرفوا له القول حتى استقر في ذهنه أن الأمر صحيح. فغضب لذلك وقال: تاجر مثل هذا في غنائه يفعل هذا الفعل؟ الفقر أولى به! فأحضرني من داري على غير صورة، وحين دخلت عليه وبخني وقرعني بالكلام المؤلم، وطلبت تحقيق ما قيل فيّ فلم أتمكن من ذلك، ولا سمع لي قول، بل أَمر بالقبض عليّ، وأن توضع الأغلال في عنقي، ويضيق علي في الحبس. وكان من لطف الله تعالى أن أباك حاضر بالمجلس، فلم يتجاسر أحد على أن يشفع لي عنده لما قام به من الغضب. وحين رأى والدك ذلك تقدم وتنحنح، وذكر أحاديثَ في العفو عن الجاني، وتلا: {يا أيُّها الذَّينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ثم شفع فيّ فشفَّعه السلطان وأَمر بإطلاقي، وبعد ذلك ظهرت له براءتي، ولكن لو لم يسخره الله لي في تلك الساعة لذهبتْ نفسي وأموالي كلها! فأي جميل أكبر من هذا، وأي صنيع أعظم من هذا؟! ومع ذلك كله فأجر أبيك فيما فعله معي على الله، وإني طالما كنت أترقب له حاجةً تأتي على يدي فأقضيها له، فلم يتيسر لي إلا هذه الخدمة، وعسى أن يكون فيها قضاء بعض ما وجب عليّ، ولا أظن ذلك".

نساء من دارفور - القسم الثقافي
نساء من دارفور (Getty)

مشغولات نسائية

بعد المكوث ثلاثة أيام قرر عم رحالتنا أن يسافروا إلى ديارهم فأعطاه السيد أحمد البدوي مجموعة من الهدايا التي تصنعها نساء دارفور في أوساطهن للزينة يسمَى عندهن: رُقادَ الفاقة، ومعناه: نوم الراحة. وأعطاه أيضا خَرز آخر غالي الثمن، يجعلنه في أجيادهِن، وهو على أنواع. منه ما يسمى بالريش، وهو خرز أبيض مستطيل، فيه بعض خطوط سمر، معروف بهذا الاسم في مصر أيضاً. ومنه ما يسمى بالمنصوص، وهو خرز أصفر من كهرمان مستدير مفرطح. ومنه خرز كروِي الشكل أحمر غير ناصع، يسمى بالعقيق، أعطاه منها ما يزيد على عقدين، وثمنه ينوف عن ثلاثة من العبيد. وأعطاه عمامةً خضراء من الشاش جديدة، وكمية من الأعشاب العطرية كالسنبل والمحلب والصندل، وهي عطريات تتطيب بها نساء السودان، كما يقول. وقد قال له: "فرق هذه الأشياء بين نساء أبيك". وذبح لهم شاة وشواها وزودهم بها للسفر.


في بلاد بكبكابِية

كانت المسافة بين موقع سَرَف الدجاج، المكان الذي يقطن فيه السيد أحمد البدوي، وأبو الجدول مكان إقامة والد رحالتنا ستة أيام سفر. فخرجوا من سَرَف الدجاج، ومروا بالبلد المسمى بكبكابِية، وهي بلد أشبه ببلاد ريف مصر، إلا أنها أعمر منها وأخصب، لأنها آهلة بالساكن، مغتصة بالقاطن. كما يقول. ويضيف أن "أهلها تجار أغنياء، وعندهم من الرقيق ما لا يحصى كثرة. ولهم نخيل وأرض واسعة فيها آبار قريبة الماء، يزرعون بها أنواع الخضروات والبقول، من بامية وملوخية وقرع وباذنجان وفقوس وقثاء وبصل وحلبة وكمون وفلفل وحب رشاد، وكله كما نعهد إلا الفلفل، فإنه حب رفيع أغلظ من الشعير بقليل. وعندهم بعض شجر الليمون الحامض".

ويشير التونسي إلى وجود جبل بالقرب بكبكابِية يقال له: مرَّة، ويقول إنه جبل يشق إقليم الفور من أوله إلى آخره مع الاستقامة، وله عدة طُرق تصعد الناس منها إليه، ولكل قطعة منه اسم خاص به غير الاسم العام. ويلفت النظر إلى أن الفور يسكنون في أعلاه، كونهم لا يألفون الوِهاد، بل يرون أن ذلك أصون لهم ولأموالهم.

ويقول إنهم وجدوا سوق بكبكابِية عامراً، فأخذوا منه ما احتاجوا إليه، ثم سافروا ثلاثة أيام في عرض جبل مرَّة، ولكنهم صاروا يبيتون ببلاد أقوام مستوحشين يكرهون الضيوف، وخصوصاً إن كانوا من أولاد العرب، فأَصابتهم منهم مشقة عظيمة، وبعد ذلك خرجوا إلى السهل، فباتوا ليلةً واحدة بمحل يقال له: تارنيه، فأكرمهم أهلها وصنعوا لهم ضيافة عظيمة.


بين يدي الوالد

في صبيحة اليوم السادس وصلوا البلدة التي يقيم فيها والده، المسماة: حلة جولتو، ويقول: " هي من جملة حلل أبي الجدول. فرأينا على باب دار والدي خيلاً وحميراً وخدماً لأضيافٍ كانوا عنده، فدخلنا الدار، وعرضنا جواري وعبيداً يسلمون علينا ويهنئوني بالسلامة. ثم جاء والدي بعد أن ركب أضيافه وسلَم علي، فقمت وقبلتُ يده، ووقفت أمامه خدمة له. فأمرني بالجلوس فجلست. فسألني: ما الحرفة التي تعلمتَها؟ فقلت له: القرآن وشيئاً من العلم. فَسرَ لذلك وصنع ثاني يوم مجيئي وليمة ذبح فيها عدة شياه وبقر، ودعا الناس، فجاء خلقٌ كثير فأكلوا وكان يوم سرور".

وبعد ذلك يكتب محمد بن عمر التونسي فصولاً مطولة في تاريخ دارفور وسير بعض حكامها، وعادات أهلها وتقاليدهم وقبائلهم، وما إلى ذلك من مواضيع استهوت القراء الغربيين والساسة والعسكريين الذين كانوا يخططون لاستعمار هذه البلاد.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون