خوسيه سارّيا.. الأندلس جذراً ووطناً للماء

08 يونيو 2022
(خوسيه سارّيا)
+ الخط -

خوسيه سارّيا José Sarria (مالقة 1960) شاعر أندلسيٌّ ينتمي إلى ثقافة عميقة تمهّد لمجيء إنسان جديد يُحرّرنا ويخلّصنا من القيود والمرارات السياسيّة والجغرافية والاقتصاديّة والدينيّة والإيديولوجية التي نعيشها كل يوم في هذا العالم المظلم، على الرغم من الشمس التي تشرق كل يوم.
 
هذا الإنسان الكامل كونيٌّ ويعيش في أحضان برعم يتفتح بلا نهاية. تحديداً، من هنا، من هذا الانفتاح اللانهائي، من هذه البذرة التي تخترق الثقافات وتتجاوزها يبدأ خوسيه سارّيا قصيدته. ويجد في لغة الأندلس، وفي الأندلس نفسها، نموذجاً لهذا الانفتاح الإنساني والثقافي الذي تلاقت فيه آفاق حضارات وأديان، إضافة إلى الأفق العربي- الإسلامي المؤسس. الأندلس، بالنسبة له، إذاً، هي أفق القصيدة الذي يتجاوز كل ما تحدّه اللغة، وكل ما يحدّهُ الانتماءُ الجغرافي أو القومي أو السياسي. الأندلس وطن الذات والآخر، وهي التي تؤسِّس، شعريّاً، لفضاء الحرية. 

تنهض رؤية خوسيه سارّيا الشعرية من هذا البعد اللانهائي للأشياء، وهو ما وصفه بورخس في العديد من نصوصه النثرية والشعرية. وتبدو الأندلس في صلب هذا المشروع، انفتاحاً لا على الماضي أو الحاضر وحده، بل على المستقبل أيضاً. 

من ناحية، يلزم هذا المشروع الشعري القارئ بإعادة النظر في تحديد معنى الهوية، ومعنى الثقافة، وفي العلاقة بين الذات والآخر. من ناحية أخرى، يلزمه أيضاً بأن يعيد النظر في الحدود والتقاسيم السياسية بين الشرق والغرب.

 

طفولة

مع نهاية العمر، حين يسقط الليل، 
تميدُ الذكريات كمثل غصن شجرة في غابة مهجورة. 
رحيق الهواء يستدعي البراءة الأولى
ويعيدني إلى مكان يكنز أجمل الساعات:
فِنَاءٌ تعلّمت فيه لغة الماء والياسمين. 
هنالك. رأيتها كيف تنظر إليّ وتضحك. لم تذهب.
تنتظر في معبدٍ باهرٍ،
في عالم تبقى فيه الأشياء نقية
مثل الوعود الأولى: 
حبٌ مراهق، نقاء لا ينضب، زوارق مليئة بالثمار والأناشيد،
طرق من البرتقال، لون التفاح الذهبي -
بريق عالٍ وأغاني الانتصار. 

وأنظر إلى عينيكِ، أتأمل وجهك الناصع،
وأعرف أنكِ هناك، 
وأنني، ربما،
الضائع، والمتعب، والغائب الذي لا
تسعفه الكلمات لكي يسمي ما كنت أحبّه. 
لا أستطيع أن أنظر من قلبك الطفل،
لا عينين لي دونك،
وليس وجودي إلا ما تبقى من حطام سفينة موحش
ووقت ضائع
وسطو آخر غاراتي. 

حين يسقط الليل 
أريد أن أصلَ إلى قاع الماء
وهاوية عينيك اللتين تشعلان 
الرايات في شرفات أعماقي. 
أريد أن أحرر من صدغيك المتوقدين
وعوداً لم توف
وأسمع صوتك الخافت يهمس لي:
حتى الآن... حتى الآن. 
 
■■■

وطن الكلمات

ليس لي وطن إلا في اللغة 
وهذا اللون القرمزي لزهرة إبرة الراعي،
كآخر ما تبقّى من أصلي الجنوبي
حيث يوجد بيتٌ أبيض 
يَكنز صوتَ ناعورة ماء
ومملكة مورقة من السفرجل والرمان
 وملاذ آمن على حافة النسيان
أنى تعيش ساعاتي المغمورة. 

وكنت دائماً على يقين
أنه، في آخر المطاف،
سنخزن خرير ماء السواقي
وتربة هذه الزهور
ووطن الكلمة الذي يجمعنا. 

■■■

جذر الماء

من الذي كلمني من الماء؟
أهو الدّمُ الذي يرفع أعلامه 
مع صوت الناعورة الخفيف؟
من الذي كلمني من الماء 
ووصل إلى جذوري 
بهندسة قنواته؟
مثل الخميرة
يرفعُ الماءُ جبالاً من الكلمات. 

■■■

الأندلس، جذراً ووطناً للماء

لم أعد أذكر الساعات، 
أو ربما الأيام.
صرت ساكناً، بلا حركة،
كمثل تمثال من الملح المُحجّر
أمام ذلك المحيط الواسع من الرمل. 
كانت عيناي تنظران إلى ذلك الفراغ،
أما قلبي فكان يحدسُ أنَّ أصولي توجد هناك،
فيما وراء الأفق الذي يتلألأ بضوء الشمس الغاربة. 

تحت ظل أشجار الآكاسيا تذكرت القصص القديمة 
عن ماضٍ مجيد، 
عن فخر قُرانا،
عندما كان أجدادنا يبنون القصور التي تزينها النوافير
وهندسات الحروف،
عندما كانوا يشيدون الجوامع والمدارس 
من أجل عبادة إله واحدٍ تُخشى سيوفه 
كمثل صواعق السماء. 

كنا، على الرغم من بؤسنا الحالي،
ورثة سلالة من خلفاء ووزراء سكنوا
في أودية الجنة:
آه يا أندلس،
يا جذر الماء ووطنه. 

■■■

وقت انتظار

هل قلتُ لكِ مرةً اسمي؟
تعرفين جرأة عيني أو حجم يديي اللتين تداعبان الحياة. 
ربما حلمتِ في إحدى الليالي إلى جانب جسدي، أو 
أنك سمعتِ صوتي يحيط برجفة الأفق القديم 
مثل شفق المحطات المهجورة. 
تعلمين أنني كنت نذرت كل قلاعي
من أجل شفاه حمراء. 

هل قلتُ لكِ مرة اسمي؟ 
اسمي مغامرة قديمة لاحتلال الصمت،
حين كنت أحلم أن يفهم البشر دهشة الدقائق،
ورماد الوقت فيما وراء الساعات وإبرها. 
اسمي صوت شجر الصفصاف والآكاسيا المائل 
دائماً إلى الشقاء والهدوء. 
واسمي صوت طائر أبي الحناء. 
اسمي شعاع مضيء يختبئ في صدع الكلمات الرنانة:
ذلك الانعكاس الذهبي الذي ينتهي
وراء كل باب
عند المرايا. 

اسمي باقٍ على شرفات أزهار بلا جاذبية
أو في أبراج المساء العالية، 
في تلك الأماكن حيث ينعم كل شيء 
في راحته. 
هل قلتُ لك مرة اسمي؟
وقتُ انتظارٍ، هذا هو اسمي. 

■■■

هجرة

كنت أحسب أنك ستأخذين
أوراق التقويم
رصيد قلبي 
هندسة القبلات 
فصول حياتي 
شكل أحلامنا
ووعودنا الأولى عن الأبدية. 
لكن لم يكن الأمر كذلك.
حتى هذه الهجرة 
التي لا يفيض فيها إلا الصمت، 
لن تستطيع أن تُغرق بالليل وأهواله
ذكرى أيامنا. 



بطاقة
José Sarria (مالقة 1960) شاعر روائي وناقد إسباني. يشغل حالياً منصب سكرتير عام "اتحاد الأندلس للكُتّاب والنقاد الأدبيين"، وهو عضو في "الأكاديمية الملكية لقرطبة". ترأّس تحرير عدد من المجلات الأدبية مثل "Dos Orillas ومجلة "Penélope"، وقد تُرجمت نصوصه إلى لغات عدّة. من أعماله الشعرية: "وقت انتظار" (2022)؛ "كتاب الحب المستحيل" (2002)؛ "لون الذاكرة" (2016).

المساهمون