"خمس جهات" لشوقي يوسف: ما بعد اللوحة

07 يونيو 2023
من المعرض (غاليري صالح بركات)
+ الخط -

أن تطوف معرض شوقي يوسف بصحبته، أمرٌ آخر. فالفنان اللبناني المفوّه سيتكلم أمام اللوحة عن صنيعه فيها؛ هذا ما سيبدو كأنّه إعادة صنع اللوحة، ولو بالألفاظ هذه المرّة. من داخل اللوحة ستبدو مغامرة الفنان جليّة؛ إنّه الآن ــ في معرض "خمسُ جهات لكنْ مدخل واحد"، الذي اختُتم يوم السبت الماضي في "غاليري صالح بركات" ببيروت ــ بعيدٌ عن مثاله الفني الذي كان له في أولياته. هذا البعد ولو وصل إلى التضاد، هو تقديمٌ للّوحة من نقيضها، من ارتدادها على المثال الفني، ويمكننا هنا القول: من ارتدادها على أي مثال، بل من ارتدادها على اللوحة ذاتها، اللوحة المكتملة والمبنية والمتوازنة والمتسقة والمتناغمة. 

في هذه اللوحة، التي ليست مُعلّقة، بل هي بادية من وجهيّها لصق الجدار، ستعلم أنك أمام لوحة واحدة، بوجهها وقفاها، لوحة من وجهين. ليس هذا كله، فهناك ظلُّها وهو يصبح جزءاً منها. ثم حين تصل إليها تفهم أنَّ اللوحة انتقلت من وجه إلى وجه، دون أن تكتمل مع ذلك. لوحات شوقي يوسف لا تكتمل، إنها باستمرار ناقصة، أو أنها تذرع الفن كله، دون أن تصل إلى متنها. 

لا نحتاج إلى كلام شوقي لنلاحظ ذلك، لكن كلامه يكفي لنعلم أن ما يبدو لك نقصاناً في اللوحة، ما يبدو لك خروجاً عن الشكل وانقلاباً عليه، بل وعبثاً به واعتداءً يكاد يشبه الطمس والإلغاء والتلطيخ؛ ما يبدو لك هنا معركة مع الفن، وفي الفن؛ ما يجعل اللوحة هكذا تبدو وكأنها تتنصّل من نفسها، أو تسخر من نفسها أو تهاجم نفسها؛ ما يبدو خروجاً على اللوحة، ولعباً بقواعدها، بل ومجابهة لها؛ ما يبدو كذلك ليس نقصاً، ولا هو تأزُّمٌ أو خلل أو عوز أو قلة براعة. ما تراه ليس تمريناً أولياً، وليس عملاً مبتدئاً، وليس بداية خاطئة. نحن الآن لسنا على الإطلاق في ما قبل اللوحة، ولسنا في البدايات. نحن هنا في ما بعد اللوحة، وفي ما بعد التصوير نفسه. 

الصورة
من المعرض (غاليري صالح بركات)
من المعرض (غاليري صالح بركات)

لا بد أن الفنان الذي أمضى شوطاً في العمل الفني، ووصل إلى تملُّكٍ أكيد للوحته وبراعة بادية فيها، لم يلبث أن رجع على ذلك، رجع إلى سؤال الفن نفسه، إلى اللعبة التي وسمت أول القرن الماضي. إذا شئنا أن نعود إلى الجو الذي رافق أوليات اللوحة الجديدة، نعود إلى الثورة في الفن التي استهل بها القرن الماضي مغامرته الفنية. لا نرجع هكذا إلى الدادائية بالأخص، التي لا تزال ملهمة، ولا تزال مطروحة، كونها لم تكن، وستبقى فقط معركة مع الفن وداخله.

لا نستكثر قول "معركة" عن فن شوقي يوسف. في لوحاته ما يكاد يكون فظاعة، ما يكاد يكون تهشيماً وتكسيراً، والسكين في هذا العمل صنو اللوحة، بل إنَّ اللوحة هي هكذا بالسكين، وبما يشبه السكين، ما يبدو له فعل السكين أو المطرقة أو الوحل. مع ذلك، ما يبدو تلطيخاً وتمزيقاً، كل هذا يجعل لوحة شوقي يوسف بما يشبه التوحيل والتوسيخ والدمغ. لوحة تبقى حاضرة على أطرافها، بل وخارج مربعها، وتكاد تسير إلى ما بعدها. تكاد تبدو وكأنها انسكبت إلى حيث توقفت، وبقيت لذلك عارية، بل بقي فيها ما يبدو أنه معركتها، ما يبدو أنه العنف الذي دارت به هذه المعركة. اللوحة عند ذلك تكاد تكون التوتر والعصبية، والقسوة والفظاعة، التي وسمت حربها. ما جعلها تبدو، من بعيد، آثاراً وحطاماً وبقايا صادمة. 

الصورة
من المعرض (غاليري صالح بركات)
من المعرض (غاليري صالح بركات)

هكذا تبدو اللوحة متناسقة مع كلام شوقي. إنها هنا لتقول عملية تركيبها، لتقول حربها الخاصة، لتبدو، من بعيد، ميداناً لهجوم وردٍّ وقتال. اللوحة هنا فقط لتقول ما يسبقها، أو لتقول معاناتها الخاصة. إنها هنا بما خلّفته على أرضها، بما هو ولادتها القاسية والدامية. معركة اللوحة هي مع الفن، وداخل الفن. إنها ليست فناً إلّا بمقدار ما تعتدي على الفن، بمقدار ما تصنع فيه ما يبدو أنه ضدّه، ما يبدو أنه إعادة سؤاله، إعادة تعريفه. 

نحن في معرض شوقي يوسف لا ننفكّ نسأل اللوحة، لا ننفكّ نواجهها بحيرتنا وقلقنا. اللوحة هنا لا تزال تسائلنا ولا تزال تعاركنا. زيارة معرض شوقي يوسف تقودنا إلى معركة مع أنفسنا، وداخل أنفسنا. الفن هنا موجود لهذه الغاية، فالمتعة ليست مبتغاه، والجمال الكامل ليس بغيته. إن الجمال هنا يعود إلى أصله، يعود إلى معاناته وقسوته اللذين يسمان ولادته. هكذا نخرج من معرض شوقي بسؤال كبير وحيرة أكبر.

 

* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون