خليل السكاكيني: رثاء فلسطين من تحت الركام

25 ديسمبر 2023
صورة لخليل السكاكيني وزوجته سلطانة عبده عند مدخل بيتهما في بالقدس (المتحف الفلسطيني)
+ الخط -

خاض الأديب وعالم اللغة الفلسطيني خليل السكاكيني (1878 - 1953) العديد من المعارك الفكرية والسياسية، وجادَل معاصريه المحافظين، داعيًا إياهم إلى تحديث أساليب التعبير وقواعد التفكير الألسني، كما خاض معارك ضارية ضدّ الهيمنة الصهيونية على أرض فلسطين، فكان قلمُه يجول بلا هوادة، تارةً يصف تحوّلات الضاد ويضع المناهج التربوية، وآونةً يدافع عن القضية الفلسطينية، في مواجهة المشروع الصهيوني الذي تراكمت جرائمه منذ "وعد بلفور" المشؤوم في محاولة لطمس معالم الهوية الفلسطينية بأرضها وثقافتها.

في غمرة هذا النضال الذي خاضه بجرأة، أُصيب في مقتل لم يبرأ منه إلى أن فارق الحياة، حيث تُوفّيت زوجتُه إثر صراعٍ طويل مع داء السرطان الذي غلبها وغيّبها، هي "سلطانة" أو أُمّ سَرِيّ، التي كان يكنّ لها حبًّا أسطوريًّا منذ شبابه، وإليها باح بتباريح حبّ عذري في رسائل عديدة. ورغم آلامه، كتب هذه المرثية المُطوّلة بعنوان "لِذكراك" مُجزّئًا إياها إلى فصولٍ متناغمة، ابتدأها باللحظة التي فاضت فيها روحها وفارقت الحياة، ثمّ استرجع، باستخدام تقنية العود إلى الوراء، مراحل مرضها وقصّة غرامه المثالية.

أعود إلى هذا النص الفلسطيني الحرّ لا بنيّة تقديمه، وإنّما للإشارة إلى أنّ عشرين ألفًا من ضحايا القصف الإسرائيلي ماتوا، مثل "سلطانة"، مخلّفينَ وراءهم قصص حبّ وأبوّة وأخوّة، لن يعبّر عن كثير منها أحدٌ ولن يسترجع تفاصيلها ولا ذكرياتها قلم. فمع كلّ شهيد يُدفن، إن تيسّر له كَفَن وقبرٌ، تتلاشى قصّة كاملة بآلامها وآمالها، بأفراحها وأتراحها، بعد أن كان وراءها اسم وعائلة، وكان للاسم صاحبٌ يعمّر بيتًا، يحبّ ويخيب، يصيب ويخطئ، يرنو فيتحقّق حلمه أو يخفق، إلا أنّه لا خليلَ سكاكيني وراء كلّ امرأة تُقتل في هذا العدوان، ولا شاعرَ فيخلّد ذكراها بمثل هذا النص الكاشف لتفاصيل الحياة اليومية ولأغوار النفس البشرية. تتلاشى آثارُهم ولا يبقى منهم إلّا اسم وطيفُ ذكرى في قلوب أهاليهم، هذا إن بقوا. والعالَم، في ضحالته، يحوّل هؤلاء الشهداء وقصصهم إلى مجرّد رقم يعلنون عنه، كلّ يوم، مثل عدّاد تاكسي يرتفع بمرور الدقائق، حتى بات ارتفاعه رتابةً لا تُحدث أيّ أثر في الراكب، يراه فلا يرفّ له جفن.

مع كلّ شهيد يُدفن تتلاشى قصّة كاملة بآلامها وآمالها

وراء كل واحدٍ من العشرين ألفًا سلطانٌ وسلطانة، لكنْ لا خليل سكاكيني لها فيرثيها ولا ذكريات فتُحصر، وإنما جثامين تغيب عن أنظار أهلها، والعالم يداري وجهه ويواري.

كتب رجل التربية الفلسطيني هذه المرثاة وفي كلامه اعتراضٌ على القدَر وتمرّد على ما سطّره حتى دعاه إلى أنْ يَمثل أمام المحكمة قائلًا: "إنّي من المعترضين، ولو كان هناك مجلس أعلى لقاضيتُ الأقدارَ إليه". بيد أنّه، في مأساة فلسطين، لا يعترض أحدٌ على القصف المستمرّ والتدمير الأهوج الذي يمارسه الاحتلال. لا "مجلس أعلى"، كهيئة الأمم المتّحدة وقد باتت عقيمة، فيُلتجأ إليه. قصارى ما يقدّمه قادة العالم إدانات خافتة، لا ترقى إلى قرار دولي حاسم يوقف هذا العدوان... ولا يهرع أحدٌ إلى القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان ليطالب بوقف عاجل ودائم، في حين كانت تُستدعى - تمامًا كما في عصر السكاكيني - لتبرير الاحتلال وانتقاد أدنى انتهاك يجري في أرضنا.

جثامين تغيب عن أنظار أهلها بينما يداري العالَم وجهه

كتب السكاكيني نصّه هذا في غَرض الرثاء، وجمع فيه بين الأسلوب الرومانسي المتوجّع والسيرة الذاتيّة، فجاء كلمة حديثة صادقة، تنبعث من كبد حرّى، كتَبه وفلسطين في بداية أسرها. واليوم غدت جلُّ فلسطين محتلّة، غاب من يرثيها، ولعلّ الغياب أفضل، عدا صرخات تحسّرٍ تَفطر القلب، يُرسلها الآباء والأمهات والأبناء أو صمودٌ وصمت وإباء إذ لا وقت أمام الأحياء للتفجّع. يواصلون الصمود حتى الشهادة والارتقاء. كان أسلوب هذا النص بكائيًّا متفجّعًا، إلّا أنّه معاصرٌ رغم ما يَظهر من نزعة كلاسيكية تمثّلت في المزج بين النثر والشعر واستعادة معاني الغزل العذري واستعمال بعض المفردات القديمة. حديثٌ هذا الرثاء، يُخاطبنا ونفهمه، لأنّه يرثي فلسطين، ولأنّ كاتبه كان يدافع عن ضرورة تَجديد الضاد وإخراجها من دائرة التعابير الإنشائية المهترئة وتخفيفها من أثقال التكلّف والاصطناع. من جهة ثانية، كان الأسلوب واقعيًّا يستعين بآليات السيرة الذاتية التي أصدر أجزاءها في مجموع رسائله، فكان قلمه فيها سلسًا، يستعيد الوقائع بجلاء ولا يقع في التكلّف الذي لا طائل وراءَها.

يَفصلنا عن صرخة "لذكراك" أكثر من ثمانين سنةً، إذ أُطلقت أواخر سنة 1939، وكأنّها تحمل إرهاصات الموت والدمار والتلاشي، ولكن في ترجيعها بصيّص أملٍ تغذّيه الذكرى، ألم يكتبها السكاكيني حتى لا يموت الماضي ولا يتلاشى فتظلّ ناقوسًا في عالم النسيان؟ فهل ثمّة فينا من سيخلّد ذكريات هؤلاء الضحايا الذين يموتون كلّ يوم بالمئات، ويسترجع قصص كلّ واحدٍ منهم راسمًا أسماءهم، وحول كلّ اسم حُلم وطموح، خصومة وغضْبة، يستعيد عبر الكلمات لحمة الحياة الطريّة ونبضة الروح التي حركتها؟ هل من يَحفر عمّا تخفّى فيها من ترانيم الألفة التي صاغها هؤلاء الذين يرحلون كلّ يوم، كما رحلت سلطانة، في مواكب الغضب وطوفان الحرّية وكلّها من مُحييات الحياة؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون