خلطة قاتلة

05 اغسطس 2022
("دون كيشوت وسانشو بانزا عند مفترق طرق" للفنان الدانمركي ويلهلم مارستراند)
+ الخط -

سأل جاك رانسيير في كتابه "سياسة الأدب": هل هناكَ من يخلطُ بين الأدب والحياة؟ وأجاب بأن هذا نادرُ الحدوث بين البشر، بينما يقدّم الأدب مثالين شهيرين هما إيما بوفاري في رواية فلوبير "مدام بوفاري" ودون كيشوت، مع سانشو بانثا مرافقه، في رواية سرفانتس "دون كيشوت" أو "كيخوتة" كما في الترجمات الحديثة عن الإسبانية.

والحقيقة هي أن الحياة تمتلئ بهؤلاء الذين يؤمنون بهذه الخلطة. وكثير منهم يعترضون على الأعمال الفنّية من وجهة نظر الحياة، أو الواقع الذي يؤكّدون أنها تمثّله: فيلم، ورواية، ومسرح، ومسلسل تلفزيوني، لا من وجهة نظر الفن، بحجّة أن هذا الفنّ يتدخّل في شؤون الواقع، وأن تدخّله لا يتناسب مع مفاهيمهم. 

وسوف نجد في  في أماكن وأزمان مختلفة، من لا يعترض وحسب، بل يسجّل موقفاً عنيفاً من الأدب بذريعة خيانته للحياة. أليس هذا خلطاً؟ منهم من يُطالب بمصادرة الكتب أو الأفلام، ومنهم من يحلّل دم الكُتّاب، أو يسفك دماءهم، ومنهم من يتظاهر في الشارع معلناً الحرب على الكتّاب. ولا يقتصر الأمر على شعب دون شعب آخر، أو دين أو أيديولوجية، فقد شارك الجميع بلا استثناء في عبور هذه الخلطة العجيبة التي كان الأدب أو الفن ضحيتها الدائمة. إذ تفوّق أولئك الذين اعترضوا على خيانة الأدب للحياة، على أولئك الذين اعتبروا أنّ للأدب قواعده وشخصياته، أي له استقلاله.

هناك دوماً من يسجّل موقفاً ضدّ الأدب بحجّة خيانته للحياة

اللافت هو أنّ أكثر من يُعلن أن الرواية ليست الواقع، هم الأدباء أنفسهم، الروائيون في المقام الأول. فنقرأ للكثيرين تلك المقدمة التي تقول في الصفحة الأولى من الروايات: جميع الشخصيات من صنع الخيال وأي تطابق بينها وبين شخصيات في الواقع مجرّد مصادفة. ولهذا الإنكار أسبابٌ في الواقع نفسه، لا في الرواية، إنه الحذر أو الخشية أو الخوف من الارتدادات التي خلّفتها، وتخلّفها، الرواية في الواقع، وفي تفكير أهل الواقع، من أنها تسجيل حقيقي لما يجري، أو لما جرى. إذ إنّ الرفض يطاول التاريخ أيضاً، أي رفض الحكاية الروائية مقارنة بالحكاية التاريخية، أو الحكاية الشعبية، أو المرويات القبلية، أو الطائفية، إلى آخر ما هنالك من مرويات تعتبر نفسها مقدّسة، أو ترى أنها الكلمة الأخيرة في شؤون الحياة.

مَن المسؤول: المجتمع أم الرواية؟ تتحمّل الرواية القسم الإيجابي من القضية، أي أنها في ذلك التحوّل بالأدب والكتابة من عالم النخبة والبلاط إلى عالم القراء الذين أضحوا بالملايين، أنهت إلى الأبد ذلك الفصل بين الكتابة والواقع. 

بينما يتحمّل المعترِضون القسم القتالي العدواني من القضية حين يرغبون في البقاء خلف الأقنعة، أو يرفضون أي رواية عن الحياة والواقع والأحداث غير الرواية التي تُرضيهم.

مَن يدفع الثمن، اثنان: أحدهما متخيّل هم أبطال الروايات الذين يؤمنون بهذه الخلطة، إيما بوفاري ودون كيخوته، والثاني حقيقي هم الروائيون الذين يكتبون جيداً بحيث يسود ذلك الوهمُ الغريب عن أنهم يخلقون واقعاً شبيهاً إلى حدود التطابق مع الواقع الذي نعيشه.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون