حرفة الأدب

24 فبراير 2023
جزء من "عرض حالجي" للفنان السوري محمود حمّاد، 1961
+ الخط -

الخلاف بين الباحثين، في العبارة الشهيرة التي تتردّد كثيراً في التراث العربي عن أنّ فلاناً أدركتْه حِرفةُ الأدب، هو حول كلمة "حرفة"، وهل هي بضمّ الحاء، بمعنى حرمان، أم بفتحها، بمعنى صنعة، بينما لا يختلف الباحثون بتاتاً حول: ما الأدب؟

أمّا الأول، أي بضمّ الحاء، فهو ناجم عن شكوى الأديب العربي من الفقر والحاجة والحرمان، وهي حالٌ جاهرَ بها عددٌ كبير من أدبائنا قديماً، كأبي تمام مثلاً، الذي قال: "إذا قصدتُ لشأوٍ خلتُ أنّيَ قد/ أدركتُه، أدركتْني حرفةُ الأدب". وحديثاً، يبدو أنه لا أمل من أن تتغيّر أو تتمكّن حِرفة الأدب، بكسر الحاء، من حماية الكاتب من حُرفة الأدب، بضمّ الحاء.

وإذا اعتبرنا أن الأدب حِرفة، بالكسر (وسوف يكون نقّادنا قد سبقوا الشكلاني الروسي فيكتور شكلوفسكي صاحب مقالة "الفن كصنعة")، فهي تتطلّب مهارة وشغلاً خاصّين، يخضع المشتغلون فيها لتدريب قد يستمرّ سنوات، وهو أمر معروف لدى أصحاب الحرف اليدوية، مثل النجارة والحدادة والزجاج والفخّار والتحف الخشبية. ومع ذلك، فإنك تستطيع أن ترى بعينيك حرفة النجّار أو الحدّاد، وتتعلّم أصولهما على يد شيخ الكار، ولكنّك لا تستطيع أن تفعل ذلك في حرفة الأدب، إذا لم تتوفّر لك موهبة تفضي بك إلى أن تصبح أديباً.

كلما ازداد عدد المشاركين في صناعة الأدب، ازداد معنى الأدب غموضاً

على أن المفردة الثانية هي الأكثر غموضاً وحيرة في عصرنا، إذ كلّما ازداد عدد المشاركين في صناعة الأدب، ازداد معنى الأدب غموضاً. وقد انخرط المئات، بل الآلاف من الرجال والنساء في ممارسة "حرفة الأدب"، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ومع وجود هذا العدد الكبير من الشعراء والشاعرات والروائيين والروائيات الذين يطبعون الكتب، وينشرون نتاجهم في كل مكان، كي ينتقلوا بأسمائهم إلى صفّ الأدباء، غير آبهين بأن تدركهم الحُرفة، أي الفقر والفاقة.

والجواب ليس سهلاً البتّة، والمشاركة النقدية في العالم تزيده غموضاً. وقد قال رينيه ويليك وأوستن وارين، في كتابهما المشترك "نظرية الأدب"، إن السؤال: "ما الذي يُعَدّ أدباً، وما الذي لا يُعَدّ كذلك؟"، واحدٌ من الأسئلة التي تبدو بسيطة، ولكننا لن نعثر على جواب واضح لها. وقد تقرأ في كتاب جان بول سارتر "ما الأدب؟" صفحات تلو صفحات ولن تعثر على التعريف الوافي الذي تبحث عنه، لمعرفة الأدب من غير الأدب. ولا يجيب تيري إيغلتون في "نظرية الأدب" عن السؤال في الفصل الأول من كتابه، وقد نخرج أكثر حيرةً، حين يقول إنه ليس ثمّة جوهر للأدب، وإن معايير ما يُعَدّ أدباً قد تكون أيديولوجية أحياناً. ولا يمنحنا شوقي ضيف في حديثه عن الصنعة والتصنع في الشعر العربي ("الفن ومذاهبه") مدخلاً لمعنى الأدب، ومثله تقريباً حين يكتب يوسف اليوسف متسائلاً "ما الشعر العظيم؟"، فهو يسأل عن العظَمة، لا عن الشعر. وفي هذه الحالة تزداد المسألة تعقيداً، إذ لم نعد أمام "ما الأدب؟"، بل "ما الأدب الجيّد وما الأدب الرديء؟".

أنت تعرف الحرفة؟ إذاً، ما الأدب؟ وإذا كنت لا تعرف الحرفة، فما هو الذي تكتبه إذاً؟


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون