حدائق العاشق (4): روما

24 يونيو 2023
مُدرّج روما الذي يقع وسط المدينة إلى الشرق من المنتدى (Getty)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


في الحميمية التامّة للأمكنة 
أرتمي على السرير في تماثُل تمثال
على قيدوم السفينة.

(جويس كارول أوتس)

  
قبل أن يُسافر ناجي إلى لندن حدَّثني عن مفاجأته الجديدة: الرَّسم بمادّة النفط المُعتمة. اللوحاتُ متناثرة على الأرض. بعضها يستند إلى جدارِ الغُرفة. قاتمةٌ تتخلّل حوافها إشراقةُ فجرٍ بُرتقالي. بعضها بُنّي اللونِ يبزغ منه لونُ الأرجوان. لم تكن نفطاً بالمعنى المُغلَق للكلمة، بل شيئاً آخر. تدرُّجاتٌ لونية تتوالد من كتلةٍ عمياء مُبهمة. وجوهُ الناس تحمل شبَهاً بوجوه رُسومه الكاريكاتورية، إلّا أنها عميقةٌ ونائيةٌ وحزينةٌ أكثرَ ممّا ينبغي. أكثرَ شبهاً بأيقونات القدّيسين.

أمسياتٌ كثيرة تمرُّ لا نمنحها ثقلها، لأنّ لنا أيضاً حماقات البراءةِ بأنّ في الغد سيكون متّسع، بأن الجميلَ لا يحتاج إلى عبادة ربّما، أو أنّ الصّدقَ والنقاءَ ليسا بحاجةٍ إلى أسوار. لم نكن نسوِّر أنفسنا، لهذا سيتساقط بعضُنا بلا ضجيج. 

"قطرُ" شريطٌ ضيّقٌ من الأرضِ بين عتمةٍ على الجانبين. فجأة ينتبه غالبُ ونحن نسير:

- "في القَصَص القديم، يخرج الإنسانُ باحثاً عن طعامٍ طوال يومه، ولا يجدُ، ولكنّه يعود في آخر النهار إلى بيته...". 

يشدّد على كلمة "بيته"، نعم، كان هناك بيتٌ للإنسان دائماً... في العصور القديمة. 

غالبُ في الخمسين تقريباً، وبلا بيت تحديداً، بلا خيط يقود إلى خارج أو داخل. ناجي وغالب، رسّام وكاتب، نجد أنفسنا في مواجهة بعضنا بعضاً في أحد المنعطفات. لا ندري من أين جئنا، لحظاتٌ، ثم يتّجه كلٌّ إلى المنعطفِ التالي حاملاً ذكرى، ربّما خيالاً، جرحنا الذي لا شفاء منه. 

الفورمُ الرومانيُّ صيفاً. خُضرةٌ بين الشقوق. نسيمٌ بين بقايا البيوت. ليندا تسيرُ بين الأعمدة المحطّمة، وما تبقّى من أساساتِ الحمّاماتِ الرومانية. الرياحُ القديمة، الرياحُ نفسها، لا تزال تتردّد بين الزوايا. وتعلّق فتاةٌ إيطالية:

- "سطوركَ هذه تحمل الفكرةَ الفاشية نفسها... الرياحَ نفسها... الروحَ نفسها". 

- "ألا ترين أنّني أتحدّثُ عن شيء آخر... عن الرياحِ التي تبقى بعد هزيمة كلّ المدائن؟".

- "هذه فانتازيا، لم أكُن أعتقد أنّ العرب لديهم قدرة على الفانتازيا".

تستند ليندا إلى بقايا جدار، للحظاتٍ ثم تُواصل سيرها بين حُطام الصخور. طويلة، شقراء، نهدان ريّانان، ظهرٌ عارٍ، وبنطلونُ جينز قصير حتى الركبتين الذهبيتين. لا يتوقّف فخذاها عن الحركة، تُواصل صعودها بين الحُطام. لم تلتفت إلّا التفاتة خفيفة. أي لم تعرفني بعدُ ولم أعرفْها. لا أتخيّلُ أنّ في الزمان متّسعاً. اختفى الخيالُ، أو لا مكان للخيالِ منذ أن جئتُ إلى روما. ها هي حقيقةٌ لم ألمسْها بعدُ، ولم أعرف ما هي.

لا شيءَ في هذه اللحظة يستطيع اختراقَ وجود وأمان أننا معاً

الشقّةُ مزدحمةٌ بطلبة إيطاليِّين. في الصالةِ طاولةٌ ونبيذٌ. فتاتان أو ثلاث، وشابٌّ يقول إنّ لحيتَه الصهباء تُشبه لحيةَ المسيح. جاء من قريةٍ نائية إلى "جامعة روما" للدراسة مع كيسٍ من الخَيش، وبنطلون جينز واحد، يظلّ ينتظره عارياً إلى أن يجفّ على حبل الغسيل. 

تقول ليندا: 

- "أشفقْ عليه... لا تسخرْ منه".

تُضحكني طريقةُ نُطق الكلمات الإيطالية، فأشير إلى الأشياء وأسمِّيها بالعربية مع لكنةٍ إيطالية: "انظر... إيطاليتكَ سهلة يُجيدها كلّ إنسان".

مسيحُ اللّحية صغير السنّ، يهتمّ للحظاتٍ بمعرفةِ رأيي ببوذا وغاندي. وفجأةً تسألني شابّة إيطالية:

- "ما معنى الحياة في نظركَ؟". 

فأقول ببساطة، وبلمحةٍ خاطفة التقطتُ فيها الصالة والنبيذَ والوجوهَ المرحة: 

- "حفلةُ نبيذ، صخبٌ وضجيجٌ ومتعةٌ، ثم نُتمتم في النهاية بالوداع، وكلمةِ إلى الملتقى في الزمان". يستاء المسيحُ ولا يُعلّق، وتواصل ليندا صعودها في زمنٍ آخر.

وأنتبهُ إلى جِدّة فكرتي عن الحياةِ والنبيذ: 

- "النشوةُ هي ما يجعل الساهرين كُلّاً واحداً. يضحكُ ويتمتّع بشيء غامض يتجاوز حدودَ الوحشةِ والقلق. لا شيءَ في هذه اللحظة يستطيع اختراقَ الوجود، وأمانِ أننا معا".

النبيذُ هو ليندا، ونافورةُ تريفي، وأزقةُ روما، وكنيسةُ سان بيترو، والمطرُ الخفيفُ على شاطئ البحر، وتلك التي سألت.

تعنّفُ جين ذهولي بعد عدّة أقداحٍ من النبيذ في الفراش. جسدها ينتظر عودتي. وأكتشفُ أخيراً أنّ الحياة لا تتجاوز حفلةَ نبيذٍ، أو هي حفلةُ نبيذ:

- "أنا نادمة لأنني سمحتُ لك بهذا القدر من الشراب يا صغيري". 

تأخذ مفاتيح سيارتها وتتردّد قليلاً. 

- "ألا ترين أنّها فكرة ارتكازيةٌ، يُمكن أن يستند إليها الإنسانُ في أيّ مكان يكون فيه، وفي أيّ زمانٍ ليفهم الكون لا ليحرّكه؟". 

- "أنتم فنتازيّون فعلاً أيها العرب".  

- "أو أنتم مخرّبون... قوليها ببساطة".

في هذه اللحظة الخالدة التي يقبض فيها شاعرٌ على نبضٍ متوحّد

تتأفّف شابّةٌ أُخرى مرهقةُ العَينين اسمها ستيلا أي النجمة:

- "ما هذا؟ فينو... فينو أليس لديكَ غير الفينو؟".

لم أشعُر برغبةٍ بهذه النجمة. وتوقّفتُ عن مُراقبة شفتيها المُنفرجَتين وضوء عينيها الخافت.

أتوقّف عن الكتابة والقراءة، فتتساءل الإيطالية:

- "لماذا لا تُواصِل القراءة؟".

- "لأنّ هذه النجمة تجعل الحياةَ صعبةً والكتابةَ عبثاً. في هذه اللحظة الخالدة التي يقبض فيها شاعرٌ على نبضٍ متوحّد... في هذه اللحظة... هي بالتأكيد لا تفهم ولن تفهم، هذه التي تُشبه نجماً منطفئاً كيف يُمكن أن توقِظ الكونَ فينا جرعةُ نبيذ".

طبقُ اسكدنيا برتقالية، لامعة مغسولة، يضعه شارل أمامي. يسند ظهره إلى مقعدهِ، ويروح في ارتخاءٍ عميق وشعره المُبعثَر يكاد يغطّي عينيه.

يجيءُ بالسُّلَّم إلى حديقةِ بيته، يُساعدني على التقاطِ أوراق الكَرْمة الطّرية الخضراء قبل أن تغيب الشمس.

أكتشفهُ في شوارع نيقوسيا ذات صيف، وألخّصهُ بهذا المشهد المُتقاطع: يتعمّدون بالماء، ماء الأردنّ، أو نبع صافيتا، أو أي نبع كان، بحضورِ الأقارب والكاهن والأصدقاء وممثّل الدولة والإشبين. في هذا الوقت بالذات، أراه يتناول صحيفة "الحياة" يتصفّحها نصفَ مبالٍ. يُعيدها إلى مكانها في واجهة الكُشك في ساحة "الوثيريا"، ينطلق بسيارته القديمة عائداً إلى البيت ليظلَّ مع طفلهِ الصغير حتى منتصف الليل. يُصرُّ شارل على أن يتعمّد بالماء وحيداً. 

ها أنا في العتمةِ المائلة أكتبُ مشهداً مُضاءً: نافورةُ تريفي، بركةٌ ينصب فيها الرذاذُ وتنعكس صورُ الجالسِين والواقفِين عند الحواف العالية، ينتشر كثيرون كأنما الخلقُ في حالة نشور. ساهِمون وضائعون وصامتون وضاحكون أمام المياه المتدفّقة على التماثيل، عيونٌ قاتمة، أعضاءٌ لامعة تحت رشَاش المطر. 

الوقتُ مساء، روما في الساحات، على الدرجات الإسبانية، ورسّامو الكاريكاتير غادروا الساحة منذ زمن طويل. مطاعمُ هادئة. نبيذٌ رخيص، وغُرف تخلع فيها الهيبيّاتُ الآن القمصان الخفيفة. ساحةُ سان بيترو مقفرةٌ، يطلُّ عليها من الإفريز الدائري العالي حولها مئةُ تمثال صامت لقدّيسين وقدّيسات غارقين وغارقاتٍ في رُخامهم ورخامهنّ الذي سوّده الدخان.

تقول ليندا: 

- "من يقذفْ بقطعةِ نُقود في الماء ويتمنّى، أمنيتُه مستجابة... هكذا يقولون... تعال نجرّبْ".

نقف متجاورَين في ماء البركة الضّحل، نُدير ظهرينا للنافورة وتماثيلها، تُلقي قطعتها، أُلقي قطعتي. لا أعرف ماذا تمنّت، ولا أسأل. إلّا أنّ أمنيتي كانت أن أحظى بليندا في هذه الليلة المائية، في عاصمةٍ أتخيّلها تطفو في الزمان، وتكاد تختفي بين لحظة وأُخرى.

مقهى رصيفٍ في مكانٍ ما تحت مظلّةٍ حمراءَ ذات ظهيرة غائمة. المطرُ رذاذٌ والناسُ مظلّاتٌ، وفي زاويةٍ ما تتّضح السطورُ عن حديقةٍ غائمة، رياحينُ، مطرٌ مثل هذا. أصدقاءٌ وزجاجة "راكي". ويقول الكابتن "كرياكوس" الشبيه بقرصان وهو يستلقي على فراشه:

- "العنّي يا أبي المقدَّس". 

ويبدأ بالتوصية، فيُوصي بالنبيذِ لصديقه الباشا التركي، وبتمثال العذراء الجبسي لبنايوتيس يهوذا القرية ليأكله، ثم يُغطّي وجهه ويستدير إلى الجدار:

- "عليَّ لعنتكَ يا أبي المقدَّس".

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون