استمع إلى الملخص
- ساهم القالي في نقل مستجدات اللغة العربية إلى الأندلس، وواجه التيارات التقليدية، مما رفع سوية الكتابة والمعرفة هناك، كما قام بمراجعة وتدقيق الكتب.
- توفي القالي في قرطبة عام 976م، وترك إرثاً أدبياً وعلمياً كبيراً، مثل "الأمالي"، مؤكداً على استمرار تأثيره في تطوير اللغة العربية.
يصف المقرّي التلمساني، في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، احتفاء أهل الأندلس بقدوم أبي علي القالي إلى قرطبة، قائلاً: "وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن، فأمرَ ابنهُ الحكم، وكان بتصرّف من أمر أبيه كالوزير، عاملهم ابن رَمَاحِس، أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة، ويتلقّاه في وفد من وجوه رعيّته، ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمةً لأبي علي، ففعل. وسار معه نحو قرطبة موكبٌ نبيل، فكانوا يتذكّرون الأدب في طريقهم ويتناشدون الأشعار".
بهذه المقدّمة، يستهلّ الباحث والمترجم والمستعرب الإسباني سلفادور بينيا محاضرة "أبو علي القالي: الأديب الذي وفد من الشرق"، التي ألقاها في "البيت العربي" بقرطبة، الثلاثاء الماضي، ضمن سلسلة محاضرات "سير قرطبية"، التي تتناول حياة شخصيات أدبية وتاريخية وسياسية تركت أثرها في قرطبة الأموية، بهدف التعريف بإسهاماتها المعرفية أو الفكرية أو السياسية.
خُصّصت المحاضرة للمؤلّف والأديب والعالِم العربي المسلم أبي علي إسماعيل بن القاسم البغدادي القالي، الذي يُخبرنا سلفادور بينيا أنّه وُلد في ملازغرد بديار بكر عام 893م، ووفد إلى بغداد عام 914م، في صحبة قوم من قرية قالي قلا؛ بلد من أعمال أرمينيا (تركيا الآن)، ومن هنا كانت نسبته "القالي". أمّا "البغدادي"، فكانت لطول مقامه في بغداد.
حمل نقاشات اللغة ومستجداتها من بغداد إلى الأندلس
وبعد التعريف بمولده ونشأته وسبب تسميته وحياته العلمية وشيوخه ونبوغه في اللغة وعلوم الأدب ومؤلّفاته؛ والتي يضع مترجم "ألف ليلة وليلة" (2017) كتابَ "الأمالي" في طليعتها (يستشهد هنا بوصف ابن حزم الكتاب بأنّه "مبارٍ لكتاب "الكامل" للمبرّد"، يتطرّق بينيا إلى لحظة استدعاء القالي من بغداد إلى الأندلس، حيث ذاع صيته، وعمّت شهرته، حيث قرّر الخليفة عبد الرحمن الناصر أن يرفع منار العلوم والفنون في الأندلس، فسمع بشهرته وكتب إليه ورغّبه في الوفود إليه لنشر علمه.
ويتتبّع بينيا مسار قدوم القالي إلى الأندلس، حيث وصل إلى جانة بألمرية في آذار/ مارس 942م، وغادر منها إلى قرطبة في السادس عشر من أيار/ مايو من العام نفسه، ومنذ ذلك الحين، ظلّ في قرطبة إلى رحيله بعد خمسة وعشرين عاماً، حيث قام بالتدريس وتأليف الكتب، وربطته علاقة وثيقة بعبد الرحمن الثالث.
ثم ينتقل سلفادور بينيا إلى طرح السؤال الآتي: ما سبب شهرة القالي في قرطبة وتقريب قصر الخلافة القرطبي له؟ ويحاول الإجابة عن السؤال، انطلاقاً من الأثر الذي تركه المهاجرون القادمون من الشرق، خصوصاً من بغداد، في الأندلس، حيث تفرّغوا لتدريس اللغة العربية، وكانوا يحملون معهم العديد من مُستجدّات اللغة العربية ونقاشاتها المحدثة في بغداد، ونشروا هذا التجديد اللغوي في الأندلس، التي كانت التيارات الأكثر تقليدية في دراسة اللغة والنصوص سائدة فيها بحسب المحاضر. هكذا قرّب قصر الخلافة في قرطبة هؤلاء الوافدين من الشرق كي يقفوا في وجه التيارات التقليدية السائدة، اعتقاداً منهم بأنّ من شأن هذه النقاشات اللغوية أن ترفع من سوية الكتابة في شتّى مجالات المعرفة، وهذا ما فعله القالي.
أمّا السبب الثاني، وفقاً لأستاذ الترجمة في "جامعة مالقة"، فهو قيام القالي بمهام مراجعة الكتب المُؤلّفة في الأندلس والتدقيق في لغتها ومحاولة تفادي الأخطاء. وقد كان يتمتّع بمعرفة واسعة بالمعجم العربي والشعر القديم، إضافة إلى إحاطته بالأخبار والأحاديث التاريخية المرتبطة باللغة والأدب. وهذا ما عكسه بشكل واضح في مؤلّفاته، التي ذكر منها: "الممدود والمقصور"، و"تفسير السبع الطوال"، وكتاب "البارع".
رحل أبو علي القالي في قرطبة سنة 976م. وكما يقول بينيا، كُتب على قبره بيتان شعريان: "صلّوا لحد قبري بالطريق وودّعوا/ فليس لمن وارى التراب حبيبُ/ ولا تدفنوني بالعراء فربّما/ بكى إن رأى قبر الغريب غريب". لعلّ هذه المحاضرة التي تستعيد هذا الأديب الذي أسهم في تطوير اللغة العربية بالأندلس هي خير دليل على أنّ القالي لم يُدفن بالعراء، وإنما في قلوب من يعرفون قيمته وأهمّيته ويستعيدونه دائماً.