ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.
تطير العصافير رمادية في ردهات المبنى.
يتمنّى صديقٌ استقال ضجَراً أن يكتب مانشيته الأخير على امتدادِ ثمانية أعمدة:
"اللعنة"...
ويغادر.
ويتمنّى آخر أن يكون قطروزاً لقطيعها ولا أعرف مَن هي. أما السيد ويست، محرّر النسخة الإنكليزية القادم من جنوب أفريقيا، فيتمنّى أن يلتفت ولا يجد وراءه محرّراً أسمرَ يحدّق فيه، فيزايله خوفه إلى الأبد.
لم يأتِ ذلك اليوم، فصاحبُ اللعنة يُقيم الآن في بلادِ القواقع الجبلية، حيث تتكدّس البيوتُ الإسمنتية على منحدراتِ التلال الصخرية الداكنة، فوق كهوفٍ مُعتمة يتناثر على أرضها رمادٌ وبقايا أخشابٍ محترقة.
القطروزُ لم يجد قطيعها كما يبدو، فواصَلَ كتابة قصص وقصائد ذات عناوين طويلة، تسيلُ بين براميل سفن الشحن ودموع فارسه الذي آن له أن يترجّل، ترجّل واستند إلى عمود كهرباء.
السيد ويست اختفى في خوفه، أو اختفى مع خوفه، ذات ليلة شربَ فيها حتى الصباح، واستيقظ ليجدَ كوابيسه تحدّق فيه مباشرةً، فعاد إلى غفوته مرتعشاً.
يعود إلى طريقه تُرافقه هذه التي تبدو مثل كاهنةٍ تسكّعت طويلاً في الماضي
حين أسمعُ حفيفَ الأوراق وصياحَ المُحرّرين، أعرفُ أنني أمام مكتبي عصراً.
لفائفُ أخبار الوكالات التي لا تنتهي تنتظر، والأمواجُ والمقاعدُ والعيونُ وفناجين القهوة. وحدها العصافيرُ تمرّ والنساءُ ولا يراها أحد. هذه مهماتٌ جديرة بالدجاج. النسرُ تحت المطر ينكش أسنانه لا مبالياً، إلّا أنّ النسرَ في مبنى صحيفة لا يملك نكّاشة أسنان حتى. النساءُ كثيراتٌ والمطرُ ينهمر في الخارج للحدائقِ وحدها، والليلِ والطرقاتِ البعيدة. هل أنا نسرٌ محكوم بالبطالة بين دجاجٍ يلتقط الحبوب، أم شاعرٌ يحسُّ أنّ كلّ امرأة جميلة تخونه حين ينهمر المطر؟
يلتمع بلاطُ ساحة بياتسا نافونا تحت الرَّذاذِ الخفيف، يُخلي الرَّسَّامون والغجرياتُ والمتسكّعون وبائعو الخرز الملوّن، والعقودِ الخشبية أماكنهم، تسيل بنا الشوارعُ الجانبيةُ المُعتمة. روما الأزقّة والمطاعم العائلية ورائحة الجلود، وأفخاذِ الهيبيات الناعسات على درجات ساحة إسبانيا.
ربما كان السببُ تقوّس المنقار، وهذان الجناحان اللذان لا يصلحان للتهادي بين الردهات الضيقة. ما شأني بهذه الردهات؟
تلتقيه الأيرلنديةُ كلّ ليلة مصادفة. يغادرُ وهي في طريقها إلى الداخل. تحدّق فيه للحظاتٍ بدهشة امرأة أربعينية. عينان تتَّسعان اخضراراً للحظات ثم تنسرب بخطوات متعجّلة، وتغيب إلّا من رِدفين عجولين في آخر الليل.
يعود إلى طريقه تُرافقه هذه التي تبدو مثل كاهنةٍ تسكّعت طويلاً في الماضي بلا مُريدين ولا عشّاق. ينساها. وفجأة يتغيّر شيء ما، يقدّمه الصديقُ الضجر إليها مازحاً:
"هذا أحد المعجبين بكِ... جدّاً".
"حقاً؟".
لا يبدو عليها سوى أنها استُثيرت بطريقة ما، وهو ما أدهشه قليلاً.
لا يتحدّث ناجي كثيراً. كلمة أو كلمتين. ينشغل وراء طاولته مُخفياً نصف قامته، ونصف وجهه القاتم وراء لوحة الرسم، إلّا أنه يقول بعد بضعة أيام من دون مقدّمات أو سياق كأنه قرّر أمراً:
"أنت رجل خطير".
ويثبّت نظره عليّ للحظات، ينحني ويغيب وراء اللوحة. فأظلّ ساهماً أتطلّع إلى رأسه المُنحني، إلى شعرهِ المخلوط من بياض ورماد، لا أعرف ما الخطورة التي يعنيها، ولا يفسّر.
جملةٌ مكتظّة تُشبه إيماءةً غامضة، واثقة من أنّني فهمتُ كلّ شيء أو يجب أن أفهم. هذا الاعتقاد ربما هو الذي جعلنا نتواطأ على عدم الثرثرة، على الصمتِ ونحن ننحني على مكتبينا المُتقابلين. الضروري قليلٌ جداً، والغرفةُ ضيّقة يختنق معها اتّساع النافذة، نافذةٌ لا تجيء بالفضاء، بل بأضواء لافتات النيون الخرساء على واجهة مبنى، بعض نوافذه مضاءة، ومعظمه مطفأ مهجور.
الساداتُ يلهو في القاهرة، وناجي يخرج إلى الشارع متمهّلاً، نحيل أقصر ممّا تتصوّر، طفل ضائع لم يعد يبحث عن أهله منذ زمن طويل، لا يفزع من هذا النحول، لا يُبالي بالاكتظاظ من حوله. الكلُّ يصرخ ويجادل، وهو ينقل بصره بينهم صامتاً. وما إن يعود من جولته حتى ينهمك في تخطيط كاريكاتير السادات الهيبّي، أو الأنظمة الهيبّية على حد تعبير سكرتير التحرير الأشد رطوبة من زاوية جدار متآكل.
السادات يرقص على سطح دبّابة، يغنّي وبين يديه غيتار بلا أوتار: make love not war.
تدعوه الأيرلنديةُ جين، جين التي اتّسعت ابتسامتها الآن إلى الغداء في شقّتها ظهراً، حيث ستقطع الحرارة عن هاتفها طوال ستّ ساعات، كما أخبرته فيما بعد. وستقول لها الهولندية إيرين بشيء من الألم الخافت:
- "فهمتُ كلّ شيء".
وسيسألها:
- "لماذا لم تخبريها؟".
فتردّ مستغربة:
"أمجنونة أنا؟ لو أخبرتها فلن تغادر مكتبكَ حتى يوم القيامة".
"وهل يزعجكِ هذا؟".
تُغمغم باستسلام يائس:
"لديها الكثيرون، أما أنا فليس لديّ غيركَ".
ارتجلَ لها قصيدةً هامسة تتحدّث عن النارِ الأُولى التي لن تعود
أما الآن فتدعوه جين، ربّما ليدفع ثمن مزحة صديقه الضجر، أو ربّما ليحُسَّ باهتزاز شجيرة الدفلى تحت قطرات المطر.
كانت الدفلى بأزهارها الحمراء الناعمة تتمايل في الريح لدى الباب حين وصل. وكان المطرُ يتساقط خفيفاً. ستسمّيه بعد ذلك الرجل الساحر وقوس قزح، وكلّ ما ضمّته سلالُ طفولتها، وهي تستلقي تحت شمس برايتون قبل ثلاثين سنة. أسماءٌ يتلقّاها بلا مبالاة أو سخرية أحياناً.
حين أطلقتْ عليه اسم قوس قزح بصوتها المتهدّج المبحوح ارتجلَ لها بالإنكليزية أغنيةً مرحة عن امرأة أطلقوا عليها تسمية امرأة الكرز، شعرُها القمحي طويلٌ حتى البحار الشمالية، وعن قوس قزح ضاحك يتلاشى في الفضاء.
قالت مرتجفة الشفتين:
"امرأة الكرز... اسم رائع".
وفي إحدى الليالي، وأمام المدفأة الحجرية حين كانت تنتحب، وهو في طريقه إلى المغادرة فجراً، ارتجلَ لها قصيدةً هامسة تتحدّث عن النارِ الأُولى التي لن تعود، والحبِّ الأول الذي لن يعود، والإله، الإله الأول... الذي لن يعود.
كلُّ شيء يبدو خفيفاً، حتى فرحها الصاخب، وهي تستر عُريها حين مارس الحب معها ستّ مرات متوالية قطعتها لحظات مرحة:
"أنتَ مدهش... لأول مرة أعرف رجلاً يُمارس الحب... ويضحك... ويمرح".
تلك لحظات متعتها في آخر الليل، وعلى أطراف الفجر، وهما في السرير مع القهوة والسجاير، وعتمة الغرفة الخفيفة. وذات يوم دُهش بدوره حين روتْ له كيف أنّ ضيفتها الويلشية استُثيرت تماماً حين أخبرتها أنّها أصبحت تعرف بفضله خمسة أوضاع لممارسة الحبّ.
الشقّةُ هادئةٌ، والصالةُ عريضةٌ واسعة مُحتشدة برفوف الكتب والأسطوانات، وعلى مقعدٍ طويل انفتح كتابٌ كبير على لوحاتٍ شرقية، أسواقٌ ومقاصرُ ونساءٌ في حمّامات تركية، وصقور وصقالبة. وحدها، ولا يهتمّ أن يسأل لماذا. يفضّل أن يظلّ خالي الذهن.
تسأله ماذا يشرب، وهي تقف أمامه وتبتسم بفضول:
"كولا".
وبدا على وجهها غيظ مكتوم زمّ شفتيها:
"ماذا تحبّ أن تسمع؟".
"أيّ شيء ترغبين... الأفضل كلاسيك".
لا يطلب شيئاً، فالدفلى صديقة المطر بلا إعداد مُسبق، والطائرُ الهادئ على غُصنه يمتزج بالعتمة أو يسقط بين يدي امرأة بلا سبب مفهوم. فقط يُضيئه ضوءٌ ساقطٌ من مكان مجهول. كلاهما آتٍ من الليل نفسه، وذاهب إلى الليل نفسه. لم تثر الموسيقى في نفسه صدى. سكونه يشبه هواءً مفقوداً في الفضاء. الهولندي الطائر أو الطائر الهولندي، كان هذا ما يخفق بجناحيه بين أصابع فاغنر الموسيقية.
غيفارا لا يزال مختفياً، يشاركُ في تظاهرة في غواتيمالا
سفينةُ أشباح. نشيدُ بحّارة غرقى ينطلق فجأة من أعلى الصواري. نشيدٌ مهدّد يرافقه الصخبُ والأضواءُ قبل أن ينقطع فجأة وتغرق السفينة في الصمتِ والظلام.
وفجأة يقرّرُ أن ينفض السكون، أن يحتفل، فيطلب خمراً. وتقفز فرحةً، وستظلّ فرحةً زمناً طويلاً ما دام يطلب ويطلب:
" نعم... هذا... وليس... كولا".
تُواجهه على مقعدها، هي وموسيقى الطائر والصالة، بوجنتيها البارزتين وشفتيها الرقيقَتين، ودشداشتها البيضاء المُضحكة. شعرها الكستنائي القصير مبلّلٌ، ووجهها محمرٌّ قليلاً، وهو ما أثار حنانه وأخرجه من حالة المُراقب. لا بدّ أنها استحمّت قبل وصوله، عطرها واضحٌ وضوح حديقة صيفية، وكذلك نهداها وجسدها الممتلئ وردفاها البارزان.
تقترب منه وتجلس على ذراع مقعده، تكاد تلتصق به وهو يتحدّث عن كآبة الصحيفة، وهي تنهال عليه بفضائها الأخرس، عن النسور المتوحّدة التي لا تُجيد مهنة التقاط الحبوب، عن الحديقة التي لا بدّ أن توجد دائماً غافية في أجسادنا المُثقلة.
هي فوقه تماماً، مما سمح لها أن تضحك وهي تستمع إلى ملاحظاته، فلا يصل إليه سوى الحفيف، حفيف جسد من كلمات متناثرة من شاطئ قريب. تمسّد شعره وتُدني جسدها إليه. يتطلّع إليها فإذا هي تنتظر، يُحيط خصرها بذراعيه فتميل عليه، ويلصق وجهه تحت نهديها مباشرة، تحني وجهها وتقبّل شفتيه، ولكي يكون أكثر بساطة منها يُغمغم:
"ما الذي نفعله هنا؟ من الأفضل أن نكون في الفراش".
توافقه بلهجة تُحاكي تساؤله:
"صحيح... ماذا نفعل هنا؟.. هات كأسكَ وسجائرك".
تنهض وتتقدّمه. تلتفت إليه مرّة بعد مرّة كأنما لتتأكّد أنه يتبعها وأنه لن يختفي.
إلى يسار الصالة ردهةٌ وبضعة غرف. حين دخلَ كانت في السرير تحت غطاء أبيض لا يكاد يتبيّن وجهها في العتمة الخفيفة، فبدأ يخلع ملابسه قائلاً بهدوء:
"سأتعرّى تماماً".
إلّا أنه حين اندسّ بجانبها رافعاً الغطاء فُوجئ بجسدها عارياً تماماً وشاسعا في امتلائه، جسد امرأة مكتمل، فاحتضنها وهي تتضاحك:
"أنت لم تتعرَّ تماماً!".
بعد أيام وهُما في الصحيفة جاءت إلى مكتبه ليلاً، وجلستْ جانباً تُصغي إليه، وعيناها لا تفارقانه، بينما كان يتحدّث مع هذا وذاك، وما أن خرج الجميع حتى قالت، وهي تغمض عينيها وتشدّ شفتيها: "حين أسمعكَ تتحدّث أشعر وكأنكَ تدخل بي".
غيفارا لا يزال مختفياً، يشاركُ في تظاهرة في غواتيمالا، أو يُقتل في البيرو بالصُّدفة، أو يشاهد في مطارٍ على وشك دخول الغابة تحت اسم مستعار. لهذا اطمأنَّ إلى أن غيفارا بشعره المُسترسل ولحيته المُهملة سيكون قادراً على الإفلات من الموت، لن يموت، إنّه في كلّ مكان كما أشار في أحد كتبه الصغيرة.
الغابةُ متاهته، وحزنُ كلّ المسحوقين في العالم يثقل عليه. ثورة كوبا في أواخر الخمسينيات، شبّانٌ صغار مُلتحون يهبطون من الشاحناتِ أمام قصر الرئاسة ببضعة بنادق. أما الآن فقد استطالت الخيوطُ وتشابكت. وذلك المَرَحُ الذي يذكّر بحقول قمح خضراء بدأتْ تعصف به الرياحُ والحكمةُ والقوانين. لم يعد الوصولُ سهلاً إلى أيّ مكان رغم احتشاد الطرقات وساحاتِ العواصم بالشعور المسترسلة والأجساد العارية... والغناء... الغناء وحده من أعلى الصواري والكاتدرائيات والمنحدرات والساحات.
وهو عائدٌ سَيْراً على قدميه شاهد "مذكّرات غيفارا" في واجهة مكتبة، فانتبه إلى أنّ الهيبيَّ الوسيم لم يعد موجوداً. كتابه الأول كان "ذكريات الحرب الثورية" أما هذا فكان "المذكّرات البوليفية". واشترى الكتاب من دون أن ينتبه إلى أنّه لم يكن يملك أكثر من ثمنه، وهكذا قضى الليلَ جائعاً يلتهم "المذكّرات البوليفية"، يتجوّل في الغاباتِ ويتخيّل متعة هذه الحرب التي تُشبه لعبة مرحة يتخلّلها إطلاقُ رصاص ونشيد، أو هذا التاريخ الصغير لحفنةِ رجال يصطادون القِردة لعشائهم ويوقدون النيران في العراء. حفنةٌ تودُّ أن تقلب جبلاً وتنفض الغبارَ عن ملابسها وتمضي إلى قارّة أُخرى.
تستوقفه عبارةٌ بدا أنها كُتبت في الظهيرة تحت ظلال الأشجار:
"أنا الآن في الأربعين، وعليّ أن أفكر بمستقبلي كثوري".
وتساءلَ:
"تُرى هل يتقاعد الثوريون؟".
تُرافقه صورةٌ أخيرة.. بضعة رجال في وادٍ عميق يسيرون مُتعبين وجائعين وعلى أكتافهم حقائب الجنود في خطٍّ طويل، ومن أعلى الوادي تزيح راعيةُ أغنام أغصان شجرة، تُراقب هؤلاء الذين يسيرون ببطء بعيداً وهُم على وشك دخول الغابة:
"سبعة عشر رجلاً متوحّدون تحت قمر شاحب".
لا أحدَ يعرف جين، ولن يعرفها خارج الكلمات. الكلمات التي ستكتب، فقد رحلتْ منذ سنوات من دون أن أشعر. بكتْ فجأةً ذات ليلة وهي على طرفِ السرير ووجهُها بين يديها، ذبلتْ فجأةً كأنما توقّف سقوطُ المطر، وسكنت أوراقُ الشجر، يدهشني بكاؤها بعد أن قضينا الليل معاً، وهي تهمس: "أنا يائسة جدّاً".
لن يعرف أحد هذه اللحظة، ولن تعرف جين شيئاً عن هذه الغابة، وعن رغبة قوس قزح في أن يتحوّل إلى حجر. لا الأزمنةُ تلتقي ولا الأمكنة، ربما الزمنُ هو ما يلتقطنا في شبكته مثل أشباح، ربما البوكنفيليا الأرجوانية الفاتحة وحدها أشدّ خلوداً من خطواتنا، من أحلامنا، وهي تصدر حفيفاً كالريح بين الأوراق اليابسة.
الكائنُ يشقُّ طريقه في أثلام متاهةٍ يصنعها ويتخيّلها ويهدمها في وقت واحد... أماكن وأسماء وأجواء تهسهسُ مثل أجساد لا مرئية.
ليندا تنبعث مع كلّ ظهيرةٍ في ظلال أحجار الفورم الروماني، تلوح مبتسمةً في الزحام وتحت ظلال أقواس النصر الخربة، وتتَّسع عيناها الزرقاوان بالعذوبة حين أقودها إلى متحفٍ يعرض أحجارَ العنبر الصفراء، فتقول مشاكسة:
"وهل قطعتُ كلّ هذه المسافات لأشاهد أحجاراً... مجرّد أحجار؟".
في أثلام هذه المتاهة لا يتردّد سوى الصدى. ربما نسيتني الآن، فما الذي تفعله الآن بالصور، آلاف الصور؟
هاواي التي اختارت تعليم اللغات في جامعتها، واختارت شواطئها مأوى، تقع تحت خط الاستواء، لا صيفَ ولا شتاء، مطرٌ وصحو متواصلان تحت غيوم بيضاء. ليندا الآن.. قاربٌ ذهبي جانح تتناثر حوله صُور آلاف الرجال الذين غادرتهم على شواطئ مجهولة. صُورٌ يتقاذفها الموجُ، الموج نفسه الذي تهتدي به.
تقول في أحد أزقّة روما، ونحن في طريقنا إلى كنيسة سان بيترو:
"لن أتزوّج، لأن من أحب موزّع في آلاف الرجال".
وفي متحف فلورنسا أوقفتني أمام لوحة فينوس الطالعة من زبد البحر على محارة:
"انظر".
ومرّت بأصابعها على استدارة وجهها البيضاوي:
"إنها تشبهني... هكذا يقولون...".
قالتها بتهيُّب، وأنا أنقل عيني بين وجهها ووجه فينوس، وتنتابني رغبة احتضانها فجأة وسط العيون المحيطة بنا في القاعة الخفيفة الضياء.
رغم وضعية خطّ الاستواء، كان ألمُها هائلاً لا يُدرك حين تمنّتْ أن تدخل الحمّام معي وتحمّمني بيديها. كنتُ أنهيت ممارسة الحبّ معها صباح الأحد على مقعد الصالة الطويل، وظلّتْ تصرخ... وتصرخ إلى أن انتهى كلّ شيء.
قلتُ بلا مبالاة:
"كما تريدين".
فأبعدَت عينيها غاضبة.
حاولتُ أن أعتذر بركاكة لغتي الإنكليزية، إلّا أنها أصرّتْ على أن لغتي كانت دقيقة، وجاء تعبيري عن عدم رغبتي كاملاً.
صمتُّ.
ثمّ:
"حسناً... وصلتُ الذروة حقّاً... ولكنّني توقّعتُ المزيد!".