حدائق العاشق (16): الفاختة

23 سبتمبر 2023
"الحُلم" لـ يوسف نبيل/ مصر
+ الخط -

ننشُر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد، الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


"ولأنه عندما يُغمغم بكلمات الحبّ،
ستهجره وحوش البرّية التي تُشاركه حياته في التلال".

(من ملحمة جلجامش)   


هدأتْ أصواتُ المُحرِّرين وآلات الطباعة في مُنتصف الظهيرة. هدأتْ أصواتُ وكالات الأنباء، وخلت الردهاتُ والمكاتبُ من هسهسةِ الورق وحفيف الفساتين النسائية.

صوتُ الفاختة البعيد يقطع السكونَ، يذرذرهُ مبحوحاً بندائه الغامض، يرتفع وينخفض على أمواج الهواء. 

"يا جوختي... وين أختي...". 

مياهٌ تتغلغل بين البساتين، ظلالُ وعولٍ تهبط بين المرتفعات. 

"وين تنام؟ بباب الله". 

على حافة أرض خضراء، حقولٍ ذهبية، على أطراف غابة.

قنواتُ المياه الفينيسية تعبرها الزوارق الخالية، يرتفع نشيدٌ كنائسي في أقصى السكون، يسيل مُتذبذباً في الهواء الناعم صوت المؤذّن... لا إله إلّا الله... لا إله إلّا الله... فتطير الحماماتُ الرمادية الهاجعة في إفريز المنارة الزرقاء، تتناثر مُحلّقةً فوق القرية الخالية. ضربات فرشاة باهتة في أقصى النهار.

"دعنا نخرج من هذه الممرّات التي لا تصلح لأجنحة النسور". 

أذكر أنكَ قلتها وأنت تأخذ بيدي، وقلتَ ونحن نمرّ بالسكرتيرة المشغولة دائماً بِشَدّ أطراف ثوبها حول فخذيها الرفيعين.

 نغمةُ نداء الفاختة يكتبها كلُّ شعب بلغته، وكذلك انتحار الوعول

"يا لهذه اليواقيت الفاخرة على أسرّة السماسرة والوسطاء... ألا تعتقد أنها ترتكب خيانة ما بحقّنا نحن الشعراء؟". 

"نحن وعول أخيرة. ربّما وعول حضارات مفقودة".

"ما الذي يفعله وعلٌ يُحاصَر من كلّ الجهات؟ إلّا أنّ يلقي بنفسه من أعلى الصخرة الأخيرة؟".

نغمةُ نداء الفاختة يكتبها كلُّ شعب بلغته، وكذلك انتحار الوعول... من يدري ما الذي تقوله الفاختة؟ ولماذا لا يكون ما نلمسُ في هذا الوجود هكذا: نغمة نداء بعيد يُترجمه كلّ إنسان مثلما يحسّ ويرى؟  نغمة بلا أبجدية، كما هي المرأة وهذا النهار وذلك الشاطئ وتلك القطعان البرّية من الوعول التي لا نهاية لعددها؟ نغمة بلا أساتذة نحو وخرّيجي جامعات ستنمو على ياقاتهم الطحالب، بلا مكتبات سيتحوّل سكّانها إلى رفوف ومناضد ومجلّدات من تراب؟

الصالةُ الواسعة تُشعرني بالارتياح دائماً، إلّا أنّ صوتَ مُغنّية الأوبرا يُحسّسني بالضيق، كما لو أنّ ربطة عنقي تضغط، وتضغط، صوتَ امرأة ترتجف عاريةً تحت رذاذ ماء بارد، تقاوم ارتعاشها وتواصل غناءها الحادّ الرفيع.

أشجارُ الكينا العالية لا تزال بأوراقها المُرتجفة وجذوعها المُلتوية تطلّ على زُرقة شطّ ما ذات ظهيرة، زقزقاتُ العصافير الخَفِيّة في ظُلمة السُّدرة تُواصل النهار كما لو أنّها انطبعت في الروح، خدشتها، رسمتها، وهذه الوعول.

"ربما كنتُ وعلاً وقَع على جسدها الشاسع البياض، تحت الغطاء الأبيض... ربما كنتُ...".

وانتبهَ أخيراً على صورته المُتغيّرة في مرآة غرفة نومها، رجلٌ في الثلاثين يُحاول تناول الوجبات السريعة والكلمات المناسبة. رجلٌ يعجز عن التسمية، فيقول اللون والحجم والشكل كأنه يتذكّر لُغزاً. 

جين في مطبخها تُعدّ وجبة الغداء:

"أنتَ تشبه أخي الذي انتحر... كان يسخر من الغناء الأوبرالي، فهل من المعقول أن يغنّي الإنسان وهو يموت؟ عاطفية مضحكة".

لا أذكرُ الأيام حسب تواليها المعهود، فأنا أقول الثلاثاء فالاثنين، والخامسة فالرابعة... هنالك فجوة دائماً، شيءٌ مفقود.

"الجنون هو ما نشتهر به نحن الأيرلنديّين. يُقال إنّ أيرلندياً يحمل قنبلة يدوية أفلتَ صاعقُها، سألوه عن عدد رفاقه، فبدأ يعدّ على أصابعه، وحين وصل العدد خمسة، وضع القنبلة التي تكاد تنفجر بين ساقيه وواصل العدّ على أصابع يده الأُخرى".

"لا بدّ أن أخاكِ كان حسّاساً وليس مجنوناً". 

"ربّما. إلّا أنّني أحببتُه... كان الوحيد الذي أحببت".

أُلحُّ على ويندي، الليلكة الأسترالية المُوحشة، أن تبقى زمناً أطول ما يُمكن وسط ضجيج المُحتفلين والراقصين والهامسين في الزوايا، كأنّ غيابها سيسحب خيوط هذا الاحتفال إلى الأبد، ويسحب من القلب نقوشه المُرتسمة. يغلبني شعورٌ بالبكاء وهي تمسك بحقيبتها وتقف متردّدة... حائرة. شعورٌ بالفراغ المُهدِّد بأن كلّ شيء سينتهي، وتضمحلّ هذه الالتماعة البرّاقة في العينين، وهذا الوجه الطفولي الداكن السُّمرة، وهذا الجسد العصيّ على التدجين، ما إن تستدير وتذهب، ويظلّ لي هذا الضجيج، وجين وأصدقاؤها، والسيد ويست الثقيل، المتهدّل الخدّين، والجاحظ العينين:

"أريدُ رؤية هذا الذي جعل النجوم تلتمع في عينيك". 

خضرةُ عينيها في آخر الليل كامدة، وجسدُها يتراخى، وخيوطٌ حمراء تبرز فجأة على أطراف بياض عينيها.

"ماذا حدث؟".

"الحشيش... يا صديقي...".

الحشيش فعلاً، فهكذا ينطقونه بالإنكليزية أيضاً. ولا أتأكّد ممّا يحدث إلّا حين تخرج العلبة، وهي تحدّق بي بعينَين مُحمرّتين، وتبدأ بنثر سيجارة ولفّها حول قطعة سمراء داكنة.

"النجوم؟ السيد ويست؟ ما جنسيته؟". 

"بريطاني، أو قُل لُبناني... خليجي... كلّ شيء".

يُراهنها على أنّني لن أقبل دعوتها، أن أظهر أمام الناس معها، تقول هذا بعد أن رفضتُ في البداية.  

"وها أنا من خسر الرهان".

تميلُ عليّ ويندي وتقبّل خدي: 

"يا صغيري". 

كأنّ غيابها سيسحب خيوط هذا الاحتفال إلى الأبد، ويسحب من القلب نقوشه

وتضيع بقيّة الكلمات، تضيع كلماتي، لا أجدُ لغة، شيئاً تفهمه، كما يفهم الإنسان نبضة قلب أو رجفة شفتين، أو ظِلّ غابة في الذاكرة. سمرتها القاتمة تجعلها نائية، من عالَم تشتعل فيه الشموس، وتمتدّ مروج حتى نهاية الأفق. لمسة شفتيها خفيفة تذوب ما إن تستدير وتمضي. ويتصاعد الضجيج: "أرجو ألّا تُصدم إن رأيتَ أشياء لا تعجبك".  

"الأمر لا يعنيني".  

"إذن لنذهب". 

قالتها بمرح. فراغٌ ساكن وساكن... 

"هل تعرّفني بها؟".  

"آه... نعم... جين... أمي".  

تتوتّر رقبتها، وتنتزع نفسها من المقعد، أُبعد نظري وأُواصل الجلوس بإصرار مثل حجرٍ ثقيل لا يعي ما يدور حوله.

"في قفص الدجاج يظلّ النسرُ عاطلاً عن العمل، غموضُه وبطالته يُحيّران الدجاج. يتساءل دائماً، يُراقب تهاديه وكلماته المطبوعة ولا يفهم". 

وفي نهاية المقال أُبرّر هكذا. 

"أجنحةُ النسور ضخمة عادة، مُعدّة للطيران في الفضاء وليس للتهادي في الرُّدهات الضيّقة. مناقيرُها مقوّسة غير مهيَّأة لالتقاط الحبوب. أليس مُؤسفاً أن تشرب النسور العصير اليومي وتقشّر أيامها كما تقشّر بصلة؟ النسورُ العاطلة عن العمل ربما هي التي خلقت الحضارات حين كان يجيء زمنُها، أمّا الآن فهي دجاج شاذّ لا يصلح لشيء".

"مقالك غامض، ترى من سيفهمه؟".  

"أنا أفهمه وآخرون". 

أعود ُ إلى ورقتي تاركاً جوابي معلّقاً في الهواء.

تبرز بين الأنقاض آلافُ الصفحات من صحيفة ممزّقة وآلاتُ طباعة محطّمة

يحدث هذا قبل أيام قليلة من حادثة كاريكاتير ناجي الذي هزّ الصحيفة وصاحبها. بطينٌ مترهّل يُشبه تمام الشبه حاكماً عربياً يغرس عصا مِظلّة يرتسم على قماشها علمُ أميركا بين فخذَي امرأة على شاطئ البحر. على خصر المرأة كتب ناجي عبارة Middle East. وتوقفتْ عندها الظهيراتُ الساكنة.

"الثورةُ يا صديقي وهم... أسطورة...".

ولكن ويندي ليست أسطورة بالشموس التي تحملها، ولا ظلال الوعول التي توقّفتْ واضمحلّت كأنما في أُفق برّية شاسعة تاركة لي جبلاً أفكّر فيه، وطرقاتٍ متعرّجة، ونيراناً تلتمع في الليل حيث يتقاسم الرّفاق وجبتهم، وإلى جانبهم تلتمع الأسلحة.

لم أحبّ ويست حين انتحى بها جانباً وهو ينقلُ كأسه من يدٍ إلى يد في أقصى الصالة.

"هل أنتَ مثليّ؟".

"لماذا تسألين؟". 

"لأن ويست كذلك، والكثير من الرجال".

"ليس أنا". 

"الثورةُ  وهم... الثورة وهم... الثورة وهم...". 

"ولكنّهم يعذّبون الأطفال". 

"لا تذكّرني... الصغار يُثيرون شفقتي".

في الصالة تنفتح جين مثل ياقوتة زرقاء. أرفعها إليّ وأحتضنُها، تلتصق بي مندهشة:

"أوه... كيف يحدث هذا سريعاً؟ هل هو بالفكر أم بمجرّد اللمس؟".

أُغمغم وأنا أشعر بامتلاء نهديها وجسدها:  

"لا تسأليني... لا أدري". 

سماءٌ من التركواز، أشجارُ كينا تمتدّ عميقاً في مياه البحيرة، وعولٌ تتشمّم الهواء، تنحني على الماء فيصدر لمعاتٍ متوهّجة، وهجٌ في كلّ مكان، ظهيرةٌ مُلتمعة، وأنا أركض من مكان إلى مكان ولا أصل، أتعثّر ولا أصل، وهجٌ في كلّ مكان، فتُقهقه وهي تنحني وتأخذ بيدي، أنهضُ متباطئاً، أتلفّتُ حولي حيث كانت الوعول والمياه والأشجار. 

"لغتُك الإنكليزية أزهرت فجأة، لغة جميلة، شيء غريب، طعمٌ غريب تولجه في اللغة".  

"ربما بفضلكِ...".

"هل تسمح إن أصلحت أخطاءكَ؟". 

"أخطائي كثيرة، لم تكُن اللغة أحدها، ولا النفور من هذه الخمرة القويّة، ولا هذه البرّية الشاسعة التي تُسمّينها وهماً. أخطائي ربما هي أنني غادرتُ الغابة متوجّساً منذ زمن طويل ولم أعد أعرف كيف أعود".

الشكاوى ترتفع، ويضجّ المبنى، يهتزّ، يكاد يتقوّض، يتناثر، وتبرز بين الأنقاض آلافُ الصفحات من صحيفة ممزّقة، مقاعدُ جِلدية يعلوها التراب، آلاتُ طباعة محطّمة، صورٌ... صورٌ... ولعناتُ رئيس التحرير وهو يفتّش بين الأكوام ويصرخ حانقاً. يتطلّع إلى السماء ليعرف مصدر الصوت الساخر ربما، صوتُ النسور المحلّقة وهي تضحك وترمي إليه بالأوراق والأقلام، فتهبط بطيئة... بطيئة أمام عينيه الذاهلتين.

الرمادُ يتساقط في ظهيرة مُعتمة مثل هذه على امتداد شاطئٍ ناءٍ كان ذهبياً ذات يوم ثم برونزياً، وفجأة يتحوّل إلى حديد وصدأ. أكوامُ حجارة تعلوها الأعشاب وتغوص في وحل الشاطئ حتى حدود المياه، فتتلألأ صورتُها. مدينة وهمية سكّانها الأسماكُ والقواقع وزُرقة الليلك الطافي، وهياكل السفن المنخورة. وفجأة تلوح سفينة أشباح من أعلى فنار مُطفَأ منذ مئات السنين، وأنا أركض من مكان إلى مكان ولا أصل، أتعثّر ولا أصل، عتمة في كلّ مكان.

أقُصُّ رؤياي على ناجي فيبتسم بغموض ويعود إلى لوحته يطعنها بقلم مثلوم، أقُصُّ رؤياي على جين فتصرخ بفزع وتفتح عينيها سحابةً خضراء من زجاج وسكون، أقُصُّ رؤياي على ويندي فتضحك وتضمحلّ على الجدار المقابل...

"لا تقصُصْ رؤياكَ على أحد... لا تقصُص رؤياك...".
 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون