ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.
غير أنَّ الزمنَ يُسرع
سترى أُغنيتي الزائلة اليوم الذي يُسميكِ
(هلدرلن)
مع مرور أصابعها على مفاتيح البيانو، تتدفّق موجةٌ سريعةٌ شبيهة بمرور نسيمٍ يتموّج على مياهٍ صافية زرقاء. ضربةٌ أولى، افتتاحيةٌ تأخذ بالظهور مثل أوّل صباح أو صحو جميل.
صوتُ الموسيقى أشدّ حناناً من الليل، من أوائلِ النهار. همساتُ البوكنفيليا في وحشتها الأبدية، ظلٌّ ونورٌ يتضاعفان، دوائرُ متوالية من المركز، من ضوءٍ نحيل ينسكب على الأصابع وحدها، هالةُ الشعر غمامةٌ تمتزج بالمساءِ خارج النافذة وبريق أشعة الشمس الغاربة، دقّةٌ، دقّتان، ثلاث... تنداح الدوائر حولها، تهبُّ الرياح، موجٌ يُقاطع صوتَ قطراتٍ تمضي بعيداً بإلحاح، تُواصل الغيابَ في مياهِ بحيرةٍ لامرئية.
الطائرُ الفخّاري الملوّنُ فوق غطاءِ البيانو الأسود. ألوانه تتغيّر، تشفُّ، تتطاير، تنداح أشرطة ملوّنة. لا زالت السيدةُ في حديقتها تقلبه مُتسائلة، تنهض وتضعه جانباً، تنساه، لا زالت الأيائلُ تُصغي بانتباه من مكمنها في الغابة إلى حفيف الجسدين، وصفاء النبع والزمن الذي طُرِّق وامتدّ مثل رُقاقةٍ ذهبية، والدوائرِ الآتية من بعيد، دوائر أصوات البيانو الآتية من كلّ الجهات.
لا زالت الأيائلُ تُصغي بانتباه من مكمنها في الغابة إلى حفيف الجسدين
نبعُ تريفي لا ينهمر وحيداً على أجساد التماثيل المرمرية العارية المُعتمة، لا يسيلُ وحيداً على أعضائها اللامعة، مُنحدراً إلى البركة، إلى الظلال، نبع تريفي... يُحيط به النسيمُ موجةً إثر موجة، يُغيّر إيقاعه، يبدأ بالتساقطِ أيضاً. تتمهّل الأمنياتُ أكثر، تُوازن تمتماتها مع كلّ قطرة صوت، وكلّ هبّة رياح على مفاتيح البيانو.
لا زال الثلجُ عارياً، إلّا أنّه مغمورٌ ببياض الموسيقى، باهتزازاتِ الصوت الآتي مُدوِّماً، شاملاً، مُبتهجاً، كما لو أنّ ثلجَ الأبدية نفسه بدأ يُباشر تساقطه في الهزيع الأخير من الليل، كما لو أنّ جبلَ فيتوشا نفسه يختفي تحت البياض، ويتحوّل إلى أجمةٍ حَيّة تتشرّب النغماتِ هادئةً مُستغرقة في طفولة مَنسيّة، كما لو أنّ هذا الكائنَ العابرَ في أزقّة صوفيا المُوحشة يمتدّ ظلّهُ ويتجاوز الجدرانَ إلى التضاريس الخالية تحت الغيوم البيضاء، حيثُ تتراءى الأخاديدُ الجبَلية وانبساطُ السهول وطرقات الصحراء البيضاء.
سريرٌ ملَكيٌّ من خشبِ السرو والريحان في غرفةٍ نصف مُضاءة بلهبٍ يخفق في الزوايا الأربع. إلهةٌ من موسيقى وشذىً، نصف عارية في العتمة الخفيفة، تُتمتِم مثل سفينةٍ جانحة في الضباب. تَجيءُ مع الليلِ الذي بدأ لتوِّه، عنيفة ضرباتُ الأصابع على مفاتيح البيانو، تنحدر سريعاً، تموّج الهواء، تتحوّل الإلهةُ إلى قطراتٍ على أُهبة التساقُط والذوبان. الليلُ في أوّله، والبهجةُ في القلب وفي الخارج يحتفل الناس.
بعد ستّة أيام استيقظَ، تفتّحتْ حواسُّه، وامتلأتْ بالفُلِّ الأبيض حتى أقاصيها. وفهمَ وهو يتطلّع إليها، إلى جسدهِ، الكلامَ والألوانَ، واكتشفَ لأوّل مرّة كم هي عميقة زُرقة المياه، وكم هو ناعمٌ مَلمس الريح، وشفّافٌ ذلك الصباح، وكم هي قريبةٌ من قلبه هذه المرأة النائمة.
النساءُ في خِزانات الجوز يرتجفن حناناً. الكتبُ والأوراقُ والنظّاراتُ وقطع الدانتيل المُرتّبة بعناية، المناضدُ والمقاعدُ وزجاجُ النوافذ الواسعة، الحدائقُ والمقاهي المظلَّلة تحت الشمس النحيلة، شجرُ البابونج العالي بأوراقه الصفراء، حباتُ الكستناء الساقطة منذ مطر الأمس.
الليلُ في أوّله، والبهجةُ في القلب وفي الخارج يحتفل الناس
تجمع طفلتان أزهارَ الداندليون الغزيرة بين الأعشاب، تضفُر كلٌّ منهما إكليلاً، تتبادلان الأكاليل، تركضان مُتضاحكتين، تختفيان بين الأشجار.
ينحدر صوتُ البيانو، يتخلّل أشجارَ الصنوبر والكستناء، يمرُّ مع التماعات الشمس المُتوالية في ممرّات الغابة، يتغلغل، ينداح مع اتّساع نهرٍ وحيد تُحاذيه أجمَةُ قصبٍ حتى مصبّه الأخير... في عُمق لا تصل إليه إلّا أصوات الصمت.
بضرباتِ أصابعها تتجمّع النغماتُ. طيورٌ تطير عالياً، تتباعد أو تتساقط أو تهدأ في حقول بعيدة في السماء. النغماتُ تأتي من المركز تماماً، كأنما من عمقِ عاصفة ترقُّ بعيداً تحت النجوم، تنبسط مثل رياحٍ رخيّة، تتموّج بلا توقّف حولها، وحولها، الأصابعُ المضاءةُ وحدها في العتمة تتلمّس جسدَ السكون، جسدَ الكون نفسه برقّة أنثى أصابها الندى، ندى أول صباحٍ في الوجود.