ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.
أغنية الطائر الحجري
سأطلقُ كلَّ ما فيكَ
لتكون لي
أيها الطائرُ الحجري
يا صمتَ قيثارةٍ ضائعةٍ
في ضبابِ القرونْ
حيث يجدُ مسرّاته قلبي
وتجد أسماء لها
هذه الوردة
وهذه الصيادة الماكرة
وقبائلُ الأعشابِ
وأغنيةُ الجذور التي
ستتحوّلُ إلى حجرٍ بعد قليل
سأطلقُ كلّ ما فيك...
مفكّراً بالدموع التي
هي أحفادُ الأعاصير
والرسائلَ التي لم تُكتب
لأنها كانت تمضي باتجاه الليل
دائماً
واللغاتِ التي
هي طائرٌ مرتبكٌ
لا يجد ما يسميهِ بين جسدين
أيها الحجريُّ،
يا صديقي،
يا أخي،
يا شبيهي،
يا ضحيّةَ الأغنية،
وخفقةَ الريح بين الأوراق اليابسة
أيّها التوازن الجليل الذي
يحفظ الأغنية
من أن تميد بنا
ويترك لنا فسحةً من الزمن
نتبادل فيها
خواتمنا الحجريّة.
(محمد الأسعد - 1989)
■■■
أثينا
"أشياء بلا أسماء في روحي".
(بيلا احمدولينا)
ذات ليلةٍ وُلدتْ قصائد يونانية غريبة،
تدافعتْ بين النوم واليقظة، في نعاسٍ خفيف
وُلدت أمكنةٌ ووجوهٌ، هي كلُّ ما يبقى من ذكرى الإنسان
يتحدّث عنها قمرٌ، أو سحابٌ عابرٌ، أو جبلٌ، أو ساحةٌ خالية
طريقٌ متعرّج يصعد إلى قمةِ الأكروبولس
صخورٌ ملساءُ خشنةٌ ملساءُ مرتفعةٌ منبسطةٌ ضيقة
خلقٌ كثيرون على السفوح من كلّ الجهات
حَشْرٌ مُشمسٌ، لا ملائكة ولا شياطين
حطامُ فردوس محتشدٍ باللغاتِ، وعُلب البيرة والسندويشات
وروائح المقاعد الجلدية،
وسائحين يرتخون على الدرجاتِ الحجرية.
1
المرشدُ السياحيُّ القصيرُ يتوسّط حشداً ملوّناً من نساءٍ ورجال
تتساقط كلماتٌ مثل فقاعاتٍ فوق الوجوه الملساء:
براكستليس... البولوبونيز... أثينا...
بينما تقعي سائحةٌ بدينة على الحافة
تدخّن بشراهة
وتتطلّع إلى الأُفق البعيد.
2
أعمدةُ المعبد عاليةٌ، تعلوها أفاريز خالية
سوداء
ومن وسط أثينا الأسواقِ والفنادقِ وساحةِ الحمامِ
تظهر القمّةُ
جبلاً ضئيلاً نائياً وغريباً.
3
في غرفةِ الفندق دقّت بابي
في منتصف الليلِ امرأةٌ أعرفها من كتب التاريخ
لم أتبيّن منها سوى ألوانها:
شفاهٌ ثقيلة بحُمرة قاتمة
عينان غارقتان في ليلٍ فاحم
شعرٌ يتهدَّل في شمسٍ غاربة
جسدٌ ينبض مع كلِّ كلمةٍ بحضورٍ كثيف.
4
تقاطعتِ المرأةُ مع القصائدِ والهوامش التي كتبتُها
على صفحاتِ كتابِ شعر مُترجَم،
وارتبكتْ قليلاً أمام ذهولي
قبل أن تستدير وتمضي
يُخيّل إليّ أنها لم تفهم حتى الآن
أنها أخطأتِ العنوانَ والشخصَ المقصودَ
والليلةَ ربّما.
5
أحدّقُ في قواعد الأعمدة المتآكلة
في الأفاريزِ الخاويةِ، وصفحةٍ في كتاب
من هنا أطلق لورد بايرون احتجاجه:
"التماثيل التي حافظ عليها البرابرة سرقها المتحضّرون".
بعضها تحوّل إلى مسحوق أبيض لطلاء بيوت الأتراك على الأكروبولوس
بعضها يتناثر في قصر اللورد إيليجين.
خلقٌ كثيرون من كلّ الجهات
وعند الحافة معبد القرويات
تماثيل تحمل الأفاريز على رؤوسها
متماثلة بثيابها الضافية ووجوهها المُستطيلة المنسابة
وبالوهمِ ربّما
وهمِ أنهنّ يحملن شيئاً.
6
القروياتُ هادئاتٌ منذ الأبد
بعيونهنّ اللوزية والشفاه الساخرة،
وشعر الرأس المنحدر على الجانبين متعرّجاً
لا قداسة حيث الصخر والسكون
الرعبُ وحده
ربما الزمنُ الذي تلوّثه خضرةُ أعشابٍ منسيّة
غبارُ البارود ثم سناج دخان المصانع
وهكذا إلى أن لا تبقى سوى الريح.
7
أفكّرُ بالمرأةِ المجهولة مُتخيِّلاً
أنها سألتْ عنّي في الماضي والحاضر
تابعتْ طريقها مع السطور وهي تتلاحق باتجاه غابةٍ، أو قوسِ نصر قديم،
أو نافورةٍ في ساحةٍ من ساحات إحدى العواصم.
نهارٌ محموم في معبد دلفي
لم تبق سوى الريح بين أشجار الزيتون والبندق
ذكرى عصافير تنتشر في غابةِ توت
خيالاتُ نيرانِ الأضحيات
العباءاتُ الأرجوانية
النبيذُ
أنهارُ الحضارة اليونانية في أعياد لا تُحصى.
8
قال سقراط ذات نهارٍ مشمسٍ يُشبه هذا النهار
ربما على نفس هذه الدرجات الحجرية
وأمام جَمْع مثل هذا الجَمْع:
"أجابتْ الكاهنة، وهي تتلوّى بتأثير دخان الكهف المُسكِر:
'سقراط أحكم الناس'
فعجبتُ من الأمر
ورجوتُ أن أعرف؛
لهذا ما زلتُ أسأل مَن ألقى في الطرقات والحوانيت
لأثبتَ خطأ الكاهنة".
9
الحجرُ
بقايا الحجر
يا للمهمّة المُضحكة
تفقد الأعمدةُ سقوفها
والأفاريزُ آلهتها
ويتلوّى الطريق صاعداً بنا
نحو مغارة الكاهنة.
10
ذات نهار ستدعوني الكاهنة
فأتقدّم وَجِلاً بين الأشجار
تعرّيني نظرتُها
فأتحوّل إلى ماءٍ دافق
فرجةٌ بين أشجار الغابة تُضيئها شمسُ منتصف النهار
أزهارُ بوكنفيليا، ورمّانٌ وداندليون،
ونسيمٌ وغمغمة مبحوحة
" سأجعلكَ كاهني الوحيد...
متاهتي الوحيدة".
11
ذات مساءٍ ستهمس هذه الأزهارُ في الوحشة
تنتبّه إلى حدود الفجر،
إلى الامتلاء الذي كان،
إلى قلبِ الأشياء، والحديثِ، والشفاهِ،
ونعاسِ أوائل النهار
ننعطفُ مئات المرّات ضائعين في أراضٍ
ينتشر فيها النوّارُ
وتتساقط نغماتُ البيانو في عتمةٍ خفيفة
هناك في السماء،
حيث تنحدر الغيوم في الظلال،
حيث تركتُ طائري الحجريّ الملوّن الصغير.
12
ستحلّق الطيورُ عالياً
وينحدر طائرٌ وحيدٌ
يحطّ فجأةً على غُصنِ شجرة
يهتزّ الغصنُ على خلفيةٍ من سماء خضراء
يتموّج العشبُ في الريح
يتحوّل الطائرُ إلى ظلٍّ، والشجرةُ إلى عتمة
والشفقُ إلى برتقالٍ مصهور.
13
أمكنةٌ لا سبيلَ إليها
لوحاتٌ معلّقة أو مرايا
لا منفذَ إلى صمتها، أو حفيفها
لا منفذَ إلى الأخضرِ، والأحمرِ، والبرتقاليِّ
كأنما في برّيةٍ بعيدة
في زاوية ما من زوايا هذا العالم
أثينا، روما، طليطلة، صوفيا...
ربما في سهوبٍ بعيدة.
14
الطيورُ تغيّر أشكالها
تنحدرُ إلى جوانب البحيرات
تختفي بين الأشجارِ والصخورِ
تخرج من الأجمات نساءٌ
ذهبياتٌ يهبطن إلى الماءِ
واحدة بعد الأُخرى.
15
قبل أن أصل إلى حافة المياه
إلى حانةٍ مُطلّةٍ على البحرِ أتوقّف
لدى قريةٍ صغيرة مصنوعةٍ من ترابٍ وغبارٍ
ورغبةٍ مكتومة
تتنفّس تحت عقودها العبّاسية
رطوبةُ مياهٍ تترقرق خلف الجدران العالية
أشجارُ البيت المألوفة
السدرُ والنخيلُ
عصافيرُ الدوري
طرقاتٌ مُتربة تنحدر نحو مسجدٍ ومنارة زرقاء
كان ذلك قبل ستمائة عام أو أكثر...
"سافاثا" أيّها الآرامي التائه
تسأل صاحبةُ الحانة
بعد أن تعرّفتْ عليَّ وقدمتْ لي كأساً:
"إلى أين تمضي بهذا الوجه المتعَب حتى لا يكاد يعرفك أحد؟".
فأقول في حلمي: "إلى أبي".
16
السماءُ عاليةٌ
فضاءٌ شاسعٌ من البرتقال والتركواز
وبيننا هذا الزمن...
مياهٌ شفّافة
وبعيداً في القاع تحلّق الطيورُ
تتجرّد النسوةُ وتبترد الظلالُ
تنفتح النوافذُ في الجدران
تتغيّر أشكالُ البيوت والناس
ترتفع المباني الإسمنتية بجوار البيوت الطينية
تتصاعد نداءاتُ الباعة
وتختفي البساتين
يتحوّل الليلُ شيئاً فشيئاً إلى كهرمان
تقولُ صاحبةُ الحانة:
"لا شيءَ يبدأ أو ينتهي
مشهدٌ صامتٌ يرتفع فيه غبارُ الصحراء ما أرى
أو ثلجٌ يدوّم في أقاصي الشمال البعيد
ليس لنا إلّا أصوات الكلمات، وألوان الأشجار،
والأغنيةَ التي تتحوّل إلى حجر،
وهذا الحفيف الذي تُصدره خطواتنا في ممرّات الغابة
ليس لكَ إلّا أن تتحوّل إلى ما تشتهي
تستيقظ صباحاً فإذا أنتَ فراشةٌ،
وتنعس ظُهراً فإذا أنت سدرةٌ تزحمها العصافير
ومع الليلِ تكون قيثارةً مفلولة
صمتُها أخضر
في فِراش امرأة وحيدة".
17
الريحُ تعصف بين أشجار الزيتون والبُندق
نغماتٌ واهية تتساقط في أماكن مُلتمعة
ثلاثة تلاميذ في مرسم الكلّية أمام طالبة منحرفة على مقعدها،
وشعرها كأنما عبث به نسيمٌ عابر
وأنتِ وراء البيانو، والموسيقى
في مكان مجهول
يواصل الأولُ الرسم حتى تكتمل اللوحة
يرسم الثاني نافذةً في جدار بعيد
يتوقّف الثالث، ولا يتمّ لوحته حتى هذه اللحظة
تتركين غرفة البيانو
نترك مرسمنا إلى الأبد
ألحاناً مُنفردة في أماكن متباعدة لم تبدأ معاً
بعضنا يُعزف في غابات هادئة على حافة البحر
بعضنا يتردّد في غرفٍ مغلقة
بعضنا تُصيبه خضرةٌ مجهولة
ما يتعمّق الآن هو لونُ شجرة المندلينا التي ستموت بلا ضجيج
ما يخفت هو حفيفُ الخطوات، والليل يقترب من نهايته
أصفو مثل مرآةٍ
أودُّ أن أكون في كلّ مكان
في كلّ الساحات
ساحاتِ المدن التي تجوّلتُ فيها ذات أصياف أو شتاءات
في كلّ الأمسيات البعيدة، والحانات المنزوية
مع كلّ الصديقات اللواتي مارستُ الحُبّ معهنّ على أسرّة الفنادق
أو التقيتُ أمام مطاعم الوجبات السريعة
والمتاحف والنوافير
أو سهرتُ طويلاً بعد أن غادرن في القطارات المتّجهة شمالاً.
18
الجدرانُ تتهدّم
تنهضُ من جديد
تتّسع وتمتدُّ
ميادين العواصم تغصُّ بالمارّة كلّ يوم
وتشهد المطاراتُ خليطاً عابثاً من نساء ورجالٍ ينتظر عند البوابات
امرأةٌ على مقعد يطلُّ على سماء غرناطة المحتشدة بطيور السنونو الخاطفة
وجوهٌ تجيء وتمضي
والمذيعةُ تُعلن عن طائرةٍ مغادرة
في هذه اللحظة أسمعُ اسمَكِ يتردّد
أمسيةٌ في محطة القطار الذاهب شمالاً
فينيسيا والغروب
وجوهٌ صامتة وراء نوافذ القطار
وأنتِ في النافذة ذهبٌ وأرجوان
وكلّ ما يغادر إلى الأبد.
19
تختلط الشجرةُ بالعتمة
بالهواء
تمتزج المرئيات
الطائرُ ظلٌّ والشفقُ كهرمان
لم يعدِ العشبُ أخضرَ
والريحُ برتقالية
الليلُ وحده يجعل الكونَ في بدايته الأولى
ينحدر الطائرُ عن غصنه فجأة
يسقط متحجّراً في حضنِ امرأة ساهمةٍ على مقعدِ مقهى
تتناولهُ
تقلّب جسده المتحجّر
تمرّ أصابعها على ألوانه
بريقُ أغنية خرساء وعتمة ضافية
ضوءٌ وحيد يسقط على الطائرِ والمرأة.