- تدهور الوعي الحضري وتصحير الوعي، بفعل تجريف الهوية العربية وترييف المدن، وسيطرة مراكز المال التي يديرها الغرب، مما أجبر المثقفين العرب على الانضمام للقافلة أو مواجهة الفقر المدقع.
- الربيع العربي جاء كفرصة للتغيير لكن سرعان ما قوبل بالثورات المضادة والأنظمة الموالية للغرب، مما أدى إلى استمرار الوضع القائم وتعميق الانقسامات، وترك المثقفين العرب أمام خيار صعب بين الانضمام للسلطة أو الوقوف مع الشعب.
لقد مرَّ وقتٌ طويلٌ منذ أن وُجد بعض المثقفين العرب على أرض القرن العشرين، كي ينظروا حولهم، فيقارنوا بين هنا وهناك، ليَشقوا فقط ويعانوا. ثم مرّ وقتٌ أقلّ كي يظنّوا أنفسهم تطوّروا واستوعبوا تعقيدات الحقيقة خارج كيانهم الوطني. وعليه راحوا يكتبون عن العدو بطريقة ملائمة، وبنوايا مُبهمة وباردة، بناءً على معرفة أنَّ اللّقاء مع صاحبهم الصليبي، كما هو اللقاء مع الجنس، يمكن أن يميل نحو الكمال أكثر من الدناءة.
كان لمال النفط دخلٌ في هذا، وكان لسيطرة لوبيّاته على الإعلام والثقافة دخلٌ في هذا أيضاً. وقد بدأ هذا كلّه بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر، في السبعينيات من القرن المنصرم. ومع مرور عشرين سنة فقط، شرعت مفاعيله الكارثية تظهر، لكنّها تبلّورت بشكلٍ طوفاني في الثلاثين سنة الأخيرة، خاصّة أواخر وأوائل الألف الثاني والثالث.
هُدّمت حواضر العرب التاريخية في المشرق بذلك المال، وتمّ َتجريف الوعي الحضري على نواسِهِ فيها، ليعلو المشهد وعيُ الصحراء، ويتم تصحير الوعي خارجه، وترييف المدن، والانقلاب من الحافة إلى الحافة. مراكز المال تمتلك كلَّ شيء، ويقبع خلفها غربيون يديرون كلَّ تفصيل من على بُعد أو قُرب، سيان. والمثقّفون العرب فقراء ومعدمون، لديهم عوائل ومسؤوليات، وليس أمام بعضهم من خيار سوى الالتحاق بالقافلة، بعد إشاعة الفقر المُدقع والهوان على النفس في جميع الجهات. هذا هو الحال، بالعموم وباختصار مخل، كون مساحة المقال لا تحتمل التنقيب في التفاصيل، لتحلّلها وتخرج بخلاصات منها.
دارت الأرض دورتها، وجاء الربيع العربي، بعد كبت وبيل، وفعلت الناس أقصى ما تقدر عليه، ثم استكانت، حالما نكّلت بها الثورات المُضادة، والأنظمة الأكثر عمالة للغرب، التي انحازت إلى البقاء على كراسيها على حساب مصالح شعوبها الدنيا. حتى وصلنا اليوم إلى وزراء خارجية وإعلام عرب ينطقون في ممالك النفط بلسان الأعداء، وإلى جامعة عربية يسيطر عليها المتكرّشون بالثروات، فيأمرونها، فتأتمر لهم طواعية أو حتّى إكراهاً. بينما النتيجة في الحالتين واحدة، والكلُّ يلعب وقد استمرأ دور تابع التابع، دون رفّة جفنٍ أو طارف حياء، وتحت الكاميرا.
هكذا، على عينك يا تاجر! وانقسمت المنطقة إلى فسطاطين: فسطاط تحالفَ علانيةً مع العدو؛ وهو الأكثر عدداً والأضخم مقدّرات وإمكانات. وآخر وقف مع الحق والمقاومة، يحيا مثلهما على الكفاف من كلّ شيء، ولا يبيع. فأيّهما تختار أيّها المثقف العربي، وقد حانت ساعة الحقيقة: من يُلقون لك بالفتات من علٍ، بعنجهية الصحراء، كي تقيم الأود، وتستر نفسك، فقط لا غير، أم تقف مع شعبك المظلوم، وهو يناوش المستحيل، جاعلاً منه ممكناً، بنسغ الحياة الأعمق فيه، على امتداد كلّ الجغرافيا من محيط لخليج، فلا تبيع روحك للشيطان وأتباعه الكثر؟
هل يبدو أنَّ عصر عدم الاستقرار، مع التغيرات في مواقف القوى، يشجّع على الاضطرابات، والمثقفون العرب ليسوا مستعدين جيداً لمواجهتها، إلّا بمزيد من الركوع؟
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا