استمع إلى الملخص
- **المواضيع التي تناولتها الجريدة**: شملت السياسة، الثقافة، الاقتصاد، التعليم، والدين، ودافعت عن "الجامعة العثمانية"، وعارضت التمردات الداخلية وحثت الشباب على الدفاع عن الدولة العثمانية.
- **المواقف الثقافية والاجتماعية**: دعمت حق المرأة في التعليم والعمل، وانتقدت التعصب الديني، وتناولت قضايا الاستعمار والصهيونية، وأكدت أن الاستعمار البريطاني منع نشوء نظام برلماني في البلاد.
في الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1908 صدر العدد الأول من "جريدة القدس"، لمُحرِّرها وصاحب امتيازها الصحافي والكاتب جرجي حبيب حنانيا (1864 - 1920)، لتكون أول جريدة وطنية دستورية في القدس استمرّت لستِّ سنوات مُتتالية، حيث صدر منها 391 عدداً، بمعدّل عددين أسبوعياً كلّ ثلاثاء وجمعة، إلى أن تعثّر المشروع ماليّاً وتوقّفت عن الصدور في التاسع والعشرين من أيار/ مايو 1914، وتزامَن ذلك مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. أرشيف هذه الجريدة، المُتاح رقميّاً عبر الموقع الإلكتروني لـ"مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، هو ما يستعيده الباحث الفلسطيني ماهر الشريف (1950) في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "جريدة القدس وبواكير الحداثة في لواء أو متصرّفية القدس".
يُحيل تاريخ صدور العدد الأول من الجريدة إلى حدث تأسيسي سياسياً، وهو إقرار الدستور العثماني في تموز/ يوليو 1908، بعد أن علّقه السلطان عبد الحميد عام 1876، وهذا ما انعكس على خطّ "القدس" التحريري المُناهِض لـ"الحركات الارتجاعية" (المُناصرة لعبد الحميد)، والمُتماهي إلى حدٍّ ما، وفي المراحل الأولى على الأقلّ، مع خطاب "جمعية الاتحاد والترقّي" (كان جرجي حبيب حنانيا منتمياً إلى فرعها المقدسي)، والتي انقلبت على عبد الحميد بعد إقرار الدستور بعام. وهنا يكتب المُحرِّر في افتتاحية العدد الأوّل: "جريدتنا عثمانية محضة، لا تنتصر إلّا للحقّ، ولا تتوخّى إلّا خدمة البلاد خدمة صادقة، ستتعقّب آثار الاستبداد، وتبحث عن مَواطن الضعف، وتُفتّش عن الأدواء المحلّية...".
اعتبرت الصحافة أداة تحريض وتعبئة من أجل النهضة
يقع الكتاب في 380 صفحة، وينقسم إلى عشرة فصول تتناول المواضيع السياسية والثقافية، وهي ما نُركّز عليه في هذه المُراجَعة، كما تناولت أيضاً شؤوناً أُخرى اقتصادية وتعليمية واجتماعية ودينية. وينطلق الباحث في قراءته من افتراضين: "أوّلهما، أنّ محتويات الجريدة تُبيّن أنّ لواء القدس قد عرَف منذ العهد العثماني المتأخّر بواكير الحداثة، وهذا ما يُفنّد مقولة أنّ الاستعمار الأوروبي، هو الذي بذَر بُذور هذه الحداثة، وثانيهما أنّ سُكّان لواء القدس - وخلافاً لإحدى الأساطير الصهيونية المبكّرة التي تزعم أنّ هؤلاء السكّان لم يمتلكوا خصائص ثقافية وقومية مُميّزة، الأمر الذي جعل قضيّة رحيلهم أو ترحيلهم عن أرضهم سهلة - قد امتلكوا مثل هذه الخصائص التي ميّزتهم وجعلتهم يتجذّرون في أرضهم".
ووفقاً للكِتاب فقد انشغلت "جريدة القدس" إبّان صدورها بأسئلة عديدة، مُعتبرةً الصحافة "أداة تحريض وتعبئة في المعركة على طريق الارتقاء"، إلّا أنّ مفهوم "الجامعة العثمانية" ظلّ أبرز المنطلقات التي تأسّست عليها ودافعت عنها مُحذّرة من شرّ الثورات والتمرُّدات الداخلية، وضمن هذا السياق عارضت التمرُّد "الارتجاعي" الذي أشعله الدروز في جبل حوران عام 1910، وتوقّعت "أن تقتصّ الحكومة شديداً من المُحرِّكين الذين يلقون البلاد في الاضطراب المَرّة إثر المَرّة"، ورأت الجريدة "أنّه في مثل هذه الحروب يفتك أبناء الوطن ببعضهم بعضاً، غير عالمين أنّهم إنما يُقاتلون إخواناً لهُم في الوطنية والجنسية".
انطلاقاً من هذا الموقف يُمكن تحديد رؤية الجريدة من العروبة فكراً وممارسة، في فترة نشطت بها الأصوات والجمعيات والصُّحف المُنادية باللامركزية والاستقلال العربيّين، وهنا يَبرُز إعلان إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية منتصف أيلول/ سبتمبر 1911 بوصفه خبراً ذا وقع سيّئ على المَقدسيّين، حيث حثّت الجريدة الشباب على الاقتداء بـ"حضرة الوطني الغيور حسام أفندي الحسيني"، الشابّ الذي كان من أوائل المتطوّعين في صدّ الحملة الإيطالية، بل إن التطوّع شمل عموم المِلل حتى أن يهود المدينة، من خلال المجلس الروحاني الخاص بهم، شاركوا في الحضّ على الالتفاف حول الدولة، وهذا ما أثبتته الجريدة في عدد الثلاثاء 4 تشرين الأول/ أكتوبر 1911.
رصدت بواكير الحياة الفنية والثقافية في القدس وجوارها
لكن في مقابل هذه التوجّهات تبرز إشكالية كُبرى في خطاب الجريدة، يُنبّه إليها ماهر الشريف في كتابه، وتتمثّل في ضعف الإحساس بالخطر الصهيوني، واتّخاذ موقف أقرب إلى "الحِياد"، لدى عرضها أخبار الحركة الصهيونية ونشاطها على أرض فلسطين، على عكس موقف "جريدة الكرمل" الحيفاوية مثلاً، ومُحرِّرها نجيب نصّار الذي برز بصفته ألدّ أعداء الصهيونية في ذلك الحين، ويُرجِع الشريف هذا التبايُن إلى اختلاف أوضاع اليهود في القدس ونشاطاتهم الاستيطانية عن أوضاعهم ونشاطاتهم في حيفا.
وضمن هذا الجوّ، شهدت صفحات "القدس" سجالاً حامياً بين كاتب ومعارض للصهيونية هو وصفي المقدسي، وآخَر مؤيّدٍ لها وقّع مقالاته باسم "م"، كما احتوت أعدادُ الجريدة أخباراً "متجرِّدة" حول نشاط "جمعية الإسرائيليّين الصهيونية"، ولم تتردّد في عدد 25 كانون الثاني/ يناير 1911 عن نقل خبر ورَد في جريدة "الجون ترك" ذات الميل الاتحادي، مفادُه أنّ حاخام الإسرائيليين في البلاد العثمانية، توجَّه إلى الصدر الأعظم للتشكّي من المُعاملة التي يُعامَل بها رعاياه من حكومات فلسطين حينها!
لكن هذا لا يعني أنّ الجريدة لم تتضمّن أصواتاً واضحة ضدّ تسريب الأراضي للوكالة اليهودية، ومن أبرزها الأديب والشاعر إسعاف النشاشيبي (1985 - 1948) الذي نشر قصيدته "فلسطين فلسطين يا قوم"، في العدد 177 (13 أيلول/ سبتمبر 1910)، ويقول فيها: "فدعوا شحناءكم يا هؤلاء/ وانبذوا البغضاء نبذاً والعداء/ إنّ الاستعمار قد جاز المدى/ دون أن يعدوه عن سَيرٍ عداء/ لن يفيد المالُ شيئاً إن أضا/ ع الفتى في الكون مجداً وعلاء"، ثم كتب مقالاً آخر بعنوان "الإنسانية المُقدّسة والمستعمِرون الدُّخلاء"، واللّافت هُنا استخدام الشاعر المُبكّر لمصطلح "استعمار" في كتاباته وتنبيهه عليه حتى قبل احتلال الإنكليز للبلاد.
هذه بعض الملامح السياسية التي تضمّنتها أعداد الجريدة، أمّا من الناحية الثقافية فقد رصدت "القدس"، وفقاً للكتاب، الحياةَ الفنّية في لواء القدس والتي شمَلت فنّ التمثيل والسينما والتصوير الفوتوغرافي، والرسم، والموسيقى والغناء، وكذلك ألعاب السيرك والرياضة ولا سيما "الكُرة الجِلدية" (كرة القدم). ولئن كان كُتّاب الجريدة قد دافعوا عن أهمّية التمثيل والمسرح، أو "المرسح" كما كان يُطلق عليه، فإنّهم غطّوا على صفحاتها أبرز المسرحيات التي شهدها "مسرح المعارف" و"تياترو أوليمبيا" حيث قدّمت على خشبته "فرقة ناشئة الحبّ الوطني التمثيلية" مسرحية "هاملت" لشكسبير صيف عام 1909، كما تمّ تسخير هذا الفنّ لإيصال توجّهات سياسية محدّدة، حيث نشرت الجريدة أخباراً عن مسرحيات مُستلهَمة من وقائع حقيقية مثل قتل مدحت باشا، أو وقائع الانقلاب على عبد الحميد واسترداد الدستور، ودُخول شوكت باشا مع الفيلق الثالث إلى الأستانة، كذلك أبدت الجريدة اهتماماً كبيراً لوصول فرقة الشيخ سلامة حجازي وجورج أبيض إلى القدس في صيف 1913، وغيرها.
ضمن هذه الرؤية أيضاً دافعت الجريدة عن حقّ المرأة في التعليم وتوفير شروط العمل لها، واعتبرت أنّ دور المدارس يتكامل مع نشر الجرائد (حرّية التعبير) وتأسيس الجمعيات في بلوغ التنوير، حيث العقل والدين ليسا عدوّين، منتقدةً ظاهرة التعصّب الديني، وأنّ هذا كلّه لا يتأتّى إلّا على أرضية تحديث المدينة من خلال تطوير بُنية لواء القدس التحتية.
يختم الباحث ماهر الشريف قراءته لأرشيف "جريدة القدس" بتأكيد الافتراضين اللذين انطلق منهما في كتابه، حيث يُبيّن أنّ الاستعمار البريطاني حالَ دون نشوء نظام برلماني في البلاد مُفضّلاً التعامل مع طوائف ومذاهب، كما يُثبت تداعي الأساطير الصهيونية التأسيسيّة التي تزعم عدم امتلاك العرب في فلسطين خصائص قومية أو ثقافية مُميّزة، وأنّ ارتباطهم بالأرض كان واهياً لأنّهم أقرب إلى "البدو الرُّحَّل".