جاكلين الشابي.. إعادة القرآن إلى "منابعه" اللغوية الأولى

27 ابريل 2022
جاكلين الشابي
+ الخط -

دخلت جاكلين الشابّي (1943)، منذُ الرابعةَ عشرَ من عمرها، غمارَ اللسان العربيّ، فتعلّمت قواعدَه في معهدٍ باريسيّ، وتتلمذت لاحقًا على يد كبار المستشرقين الذين ملأوا السّاحة الفرنسيّة بأعمالهم طيلة النّصف الأول من القرن العشرين، مثل ريجيس بلاشير وكلود كوهان وشارل بيلا وغيرهم، إلى أنْ أصبَحت اليومَ من بين أشهر المُستعربين. فقد تدرّجت في سلّم المعارف حتى قرّرت إعدادَ أطروحة دكتوراه حول عبد القادر الجيلاني (1077-1166)، دفينِ بغداد، والأفكار الاجتماعيّة والسياسيّة في القرن الحادي عشر، تحت إشراف المؤرّخ كلود كوهان، حيث بَرهنت أنّ الرّجل لم يكن صوفيًّا فحسب، كما هو شائعٌ في التمثلات الشعبيّة السائدة، بل هو أقرب إلى صرامة الفِقهِ وترسيخ المذهب السنّي، واستنتجت من هذا البحث قناعةً ستصاحبُها حتّى اليوم: وجود شرخ عميق بين المعتقدات الجماعيّة المُتخيَّلة، والحقائق العلميّة الثابتة، ولا سيما في مجال الأديان. ثم أعدّت أطروحة دكتوراه ـ دولة حول "غَرب الجزيرة العربية في بداية القرن السابع"، تحت إشراف جمال الدين بن الشيخ، وناقشتها سنة 1992.

وبعد ذلك، دعتها تساؤلاتُها إلى التّخصّص في تاريخ الإسلام المُبكّر، أيْ: بدايات تشكّله دينًا ونَسقًا لاهوتيًّا وفقهيًّا، من خلال إجراء قراءة نقديّة للمصادر الأولى وظروف تَدوينها. وأنتجت في هذا المضمار عدّةَ كتب، منها: "ربُّ القبائل" (1997)، "القرآن المُفسَّر" (2007)، و"أركان الإسلام الثلاثة" (2017)، إلى جانب "لقد أضعنا آدم: الخلق في القرآن" (2019) و"إله الإنجيل، إله القرآن" (2020). 

في هذه الكُتب، طبّقَت الباحثة الفرنسية منهجًا صارمًا يتمثّل في إعادة قراءة المفردات القرآنيّة الأصليّة على ضوء "الأنثروبولوجيا التاريخيّة" التي تُلحق المعاني بمراجعها الأصليّة الناشئة ضمن الإطار القَبَليّ الخاصّ بشبه الجزيرة العربيّة في القرن السابع وما قَبله. ولذلك، تَردّ كلّ مُفرَدَة قرآنيّة إلى دلالتها الأولى التي تُرجِّح، بالاعتماد على أعمال المفسّرين واللغويين العرب مثل الطبري وابن منظور، أنّ مُعاصري الخطاب القرآني كانوا قد فهموها على ذلك النحو، مستعيدةً كلّ التمثّلات الاجتماعيّة التي كانت سائدةً في بيئة الحجاز، حيث ظهرت هذه المفردات والمعاني.

وعلى مرّ السّنين، جوّدَت الباحثة مَنهجَها واستَطاعت أن تثبتَ أنّ النّسيج المعجمي - المفهومي للقرآن يمكن ردّه إلى ما كان سائداً في بيئة الجزيرة العربيّة من عقائد ورؤى وممارسات اجتماعيّة وثقافيّة، تُظهر الوَجهَ الحضاريّ والثقافيّ للكلمات وتؤكّد بذلك أنّ القرآنَ عربيُّ الأصل تمامًا، في ردٍّ قاطعٍ على مدارس الاستشراق الأخرى التي تزعم أنّه منقول، في كُلّيّته، من نصوصٍ سريانيّة أو يَهوديّة حرّرَها رهبانٌ عاشوا في منطقة الشام، بمعنى أنه اختلاقٌ بَعْديّ.

تؤكد أنّ القرآن عربيّ الأصل تماماً، في ردّ على المستشرقين

ومن جهة ثانيةٍ، تؤكّد جاكلين الشابّي أنّ القرآن قد "استعادَ" أو "اقترَضَ" العديد من القصص والشخصيّات والرموز التي تعود إلى الأديان السابقة التي كانت منتشرةً في شبه الجزيرة العربية زمنَ الرّسالة المحمديّة، وأخضعها إلى منطقه الداخليّ، ممّا يعني ضمنًا أنّ النصّ استَدعاها في مسعاه إلى بناء تحالفات قبليّة كان النبي يحتاجها للاعتِراف بسُلطَته سيّدًا على القبائل. وبذلك، عملت الشابّي على ربط الصلة بين الدلالات القرآنيّة والمحيط الصّحراوي، وأوّلَت، على ضوئه، ما ورد في القرآن من صوَر ووعود ومَجازات؛ فالجِنان التي تجري من تَحتها الأنهار ليست سوى الواحات الخضراء التي كانت تتوسّط صحراء الجزيرة، والخلود الذي وُعد به أهل الجنّة ليس إلّا صفاتِ القوّة الجسديّة التي تُميّز فحول الرجال.

قد تسحر هذه الشبكة التأويلية بجاذبيّتها ولكنّها، عند التأمّل، لا تَنشَبُ أن تَتهافَت: فلا ندري لماذا ترفض الباحثة المعاني الثواني التي حفّت بالكلمات القرآنيّة، حين نزولها، فحَملتْها نحو الآفاق الجديدة التي تمثّل الكون الرمزي للإسلام. فمفردة "شريعة"، مثلاً، التي تصرّ الشابّي على أنها تعني: "الطّريق المؤدّية إلى مَورد الماء" ــ وهذا صحيح وسَبق وأن ذَكره الرّاغب الأصبهاني في "مفردات القرآن" ــ لم ترد في القرآن بمعناها الأصليّ، بل بمعنى ثانٍ، يتّصل بالأوامر والنواهي الإلهيّة التي مُثِّل لها باستعارة الطريق أو المنهاج. ولئن شاركناها الرأي بأنّ المفهوم لا يحيل على البناءات الفقهيّة المعقّدة وتفاريعها النظريّة بعد تشكّل المذاهب، فإننا لا نرى كيف يُتّخذ هذا التطوّر الدلالي اللاحق ذريعةً لإقصاء الدلالة الروحيّة التي كانت للمفردة ضمن نسيج القرآن.

ومن جهة ثانية، غالباً ما تُرجع الباحثة بعض الكلمات التي لا تتماشى مع نظريتها الهادفة لنزع قداسة القرآن، إلى أصول ساميّة كالسّريانيّة والعبرية والنبطيّة... والمعروف أنَّ المصادرة الضمنيّة لهذا التوجه هي إثبات أنّ النص القرآني كَتَبه "محرّرون" كُثرٌ، في الحقبة الأمويّة، من أجل إضفاء شرعيّة دينيّة على مَشروعهم الإمبراطوريّ: بناء خلافة سياسيّة تَحكم المناطق المتوارثَة عن الحكم الساساني بأرض فارس والبيزنطي في الشام وآسيا الوسطى، فضلاً عن المغرب العربيّ وإسبانيا.

تبني نظريّتها على موضوع صنعتْه بذاتها وأسقطتْه على المصادر

كما تصرّ الباحثة على أن ثيمات القرآن، أكانت منحدرةً من الجزيرة العربيّة أو مُستورَدة من الثقافات المجاورة، هي مجرّد انعكاس لإرادة بشريّة تَهدف إلى التحكّم في القبائل البدويّة والحضريّة، ولذلك أسمت كتابها الأول: "ربّ القبائل"، في إشارة إلى ترجمة "ربّ العالمين" الذي يستند إليه النبي في تشييد شرعيته، ثم خلفاء بني أميّة كمرجع لدولتهم، مهملةً الجوانب الروحيّة والأخلاقية والأخرويّة (Eschatologique) التي وَرَدَت في القرآن، أو مؤوّلةً إيّاها على أساس أنها تضخيم، وفي أحسن الحالات، تَنبيل للمفاهيم القبليّة. فالإيمان مجرّد "تحالف عشائريّ"، والزكاة "عطاء" بين أفرادها لشراء ذِمَمهم والحفاظ على وَلائهم، والحجّ مجرّد استعادة للشعائر الجاهليّة... وهكذا في تأويل منهجي لمقولات القرآن يُفرّغها من كلّ مضمونٍ متعالٍ.

وهكذا، تبْني الباحثةُ نظريّتها على موضوعٍ صَنعَتْه بذاتها، وأسقطتْه على المصادر، حتى صار شبكة تأويلية تَتَحكم في قراءتها، عوضَ أن تتحكّم هي فيها، فتحوّلت من التاريخ إلى الإيديولوجيا، تَحذف ما تشاء، وتَتْرك ما يقوّي بناءها النظري وإنْ بِتَكلّفٍ.

تريد الشابي نزْع الأسطرة عن بداية الإسلام وجعلها مجرّد تواصل لحقبة الجاهلية برموزها وحقائقها الاجتماعية والأنثروبولوجيّة داخلَ الوَسط المكّي، للتأكيد على أنّ الإسلام كَدين "صُنِعَ" خلال العصر الأموي. وتؤكّد أنها بَنَت نظريّة تاريخانيّة - علميّة، لكنّها لا تقوم بسوى تَخميناتٍ عن دلالة الكلمات، تعوزها الأدلّة الواضحة. ولو لم تكن كلمات القرآن تتوفّر على بُعدٍ ما من القداسة والتعالي، إثر قَطعها مع دلالتها البدويّة، لما حَمَلت العربَ وغيرَهم من الأمم التي دانت به إلى تبنّي الرسالة ونقلها للعالَم. ولا شكّ أنهم لم يفهموا من كلماته معانيها الأولى فقط، بل تعلّقت ضمائرهم بالقداسة الفَتيّة التي حَملتها فحوَّرت أذهانهم وبها صَنَعوا التاريخ. طبيعة هذه القوّة، التي حوّرت مجرى الإنسانية، هي ما لم يكشفه منهج الشابيّ، رغم جاذبيّته.

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون