ثقافة لبنان 2021: ما يصعب علينا قوله

02 يناير 2022
تمثال لـ حياة ناظر من مخلّفات انفجار مرفأ بيروت
+ الخط -

يمكن القول إنّ السياسة، السياسة المعلَنة والمضمرة، السياسة البروبغاندية والسياسة المساجِلة والسياسة الواقفة على الأطلال والسياسة المتراجعة إلى بدايات العصر وحتى إلى عصور ماضية وربما سحيقة وربما ما قبل تاريخية أو عائدة إلى بداوة مثابرة... يُمكن القول إنّ السياسة، السياسة التي ترجع إلى سلف أو لا تعود إلّا إلى لحظتها، هي المقابل، بل الوجه الآخر لما نعتبره ثقافة في بلد لا يزال منذ نشأته في بحث عن نفسه، بحث هو باستمرار سؤال عن معناه وحقيقته، بل هو، بالدرجة نفسها، محاولة لإيجاد نظرية له وفلسفة تُفسّر وجوده وتستخلص من هذا الوجود رؤية شاملة أو كونية.

الحال أنّ النقاش اللبناني يوازي تاريخ البلد الذي ليس مليئاً بالأزمات فحسب، بل هو عامر بالشكوك في حقّ البلد بالوجود بل وحقيقة وجوده، ومعنى هذا الوجود. هذه الشكوك جعلت النقاش الموازي لها صاخباً وغنياً وعامراً، بقدر ما جعلته، بالدرجة نفسها، سرابياً وهوائياً. جعلته يبدو محواً متواصلاً وعَوداً مثابراً على بدء وكلاماً علوياً ومثالياً. بل جعلت منه على طول الخط بلاغة فحسب، وأبنية مزخرفة، بل وتنميقاً واستعراضاً أدبياً وفصاحة بحتة. لقد كان هذا وراء أدب وتفلسف خاصّين إلى حدٍّ بعيد.

الآن وفي زمن الحروب نسأل: إلى أين وصلت الثقافة؟

وإذا كان من صفات لهذه الخصوصية فهي كونها قدرت على أن تقيم توازناً أو إن شئنا مزاوجة بين عربيّة خاصّة، عربيّة تعود ولا تعود إلى التراث العربيّ الأدبيّ بوجه خاص، بدون أن تكون تراثيّة، بمعنى أنّها خارج التراث وداخله، أنَّ لها في ذلك تراثيّتها الخاصة بحيث يمكن القول إنّها تصنع في العربيّة حيّزها الذي يمتُّ إلى الماضي، مع القدرة على أن ينكره، القدرة على أن يكون في ذات الوقت، تجديداً وتقليداً. لكنه في ذلك كلّه يطلق، حتّى من التراث، طاقات مخزونة فيه ويقدر على أن يوجد فيه لعبته الخاصّة. إنّه ينتمي إلى التراث الإسلامي والقرآني بدون أن ينتمي إلى الموروث العربي، مع قدرة على جعله يبدو أجنبياً أيضاً، ومع تلك القدرة على إطلاق طاقات كامنة فيه ومزاوجتها.

مع استلهام أجنبيّ، ذلك الاستلهام الذي يطلق طاقات حرّة في التراث نفسه الذي تجري أجنبته مع حفظ للتراث فيه. 
يمكننا هنا أن نفكر بجبران وسعيد عقل. الآن وفي زمن الحروب نسأل إلى أين وصلت الثقافة؟ لنقُل إنّ هذه الثقافة باتت لصيقة بثقافة، جعلتها سياسويتها المباشرة والدعوية غالباً، أو الحربية، جعلتها أقلّ ادعاء وأقلّ تفلسفاً وأقلّ صناعة وحرفية، أي أكثر دعوية وخطابية، وبالتالي أكثر ابتذالاً وفضائحية وعدوانية. هذا لا يمنع أنّ من الناحية الأُخرى، سعى جانب منها أمام أسئلة الحرب والأزمات المتفاقمة إلى إعادة طرح المسألة اللبنانية بذكاء أكبر وقدرة أكثر على التنظير والتحليل. كان لهذا فضله على اللغة وعلى المصطلح وعلى الأدب نفسه.

على مستوى آخر نسأل: أين صار الأدب؟ وأين صار الفن؟ لا يمكننا أن نجزم في هذا المجال. الشعر لدى الأجيال الجديدة يسعى إلى الخروج من فخاخ البلاغة وأحياناً الخروج من قوقعة اللغة نفسها. الرواية تغدو أكثر شوارعيّة. تعود إلى الشارع، إلى المدينة. الرسم بدوره يخرج من عباءات، لا الروّاد فحسب، ولكن أيضاً المعلّمين العالميّين. في الموسيقى لا يزال الرحابنة الكبار، وعاصي بخاصّة، وبعدهم الابن زياد هم أساتذة التجديد في الموسيقى العربية. الدراسات تحظى أحياناً بأثر مهم في النادر، لكن ما هو أكيد أنّ أسئلة الفكر والبحث تتراجع تحت وطأة الظرف. هذا لا يمنع أنّها من جانب آخر قد تخترق ذلك وتطرح أسئلة وإشكاليّات جديدة وأصيلة ومبتكرة.

بكلمة أخيرة ربّما يصعُبُ قولُها، إنّ الوقت ليس للسجال، وربما ليس للثقافة كلّها. وحده الصراخ السياسي والمعيشي هو الطاغي.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون