تمرُّد القراءة

17 مايو 2024
من مظاهرة مؤيّدة لفلسطين في "جامعة ليدن" بلاهاي، 15 أيار/ مايو 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- النظريات الأدبية تفترض وجود عقد ضمني بين القارئ والكاتب، حيث يقدم الروائي عوالمه المتخيلة كحقائق محتملة، ويقبل القارئ أو يرفض هذا الافتراض، مما يجعل القراءة تشمل مختلف النصوص والمجالات.
- التغيرات العالمية والانقسامات، خاصة في العالم العربي، تتطلب من الكاتب جهدًا أكبر لإعادة صياغة العقد مع القارئ، في ظل تغير المفاهيم والقيم مثل الحرية والديمقراطية، مما يؤدي إلى تحديات جديدة في فعل القراءة.
- التمرد على القراءات التقليدية وإعادة تقييم القيم والمبادئ يبرز بشكل خاص في قراءة الشباب للتاريخ والصراعات الحديثة، مثل الحرب الصهيونية على غزة، حيث يتم التشكيك في الروايات السابقة واعتماد منظور المضطهدين.

تفترض كلُّ النظريات التي تناولت القراءة أنّ بين القارئ والكاتب عَقْداً ضمنيّاً، يقدّم فيه الروائي مثلاً المُتخيّل الأدبي على أنّه واقعٌ حدثَ، أو قد يحدث، ويقدّم فيه القارئ الموافقة، أو عدم الموافقة، على هذا الأمر. يمكن أن يتطوّر فعل القراءة كي يشمل النصوص المكتوبة جميعاً، في التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة وغيرها من حقول الكتابة. والمسألة التي تواجه القراءة اليوم يمكن أن نطلق عليها اسم: التمرّد.

وفي ظلّ الانقسامات الكبيرة التي تجتاح العالَم، وقد اجتاحت عالَمنا العربي، أو مجتمعاتنا العربية، لأسباب مختلفة في الموضوع، يحتاج الكاتبُ إلى جهد أكبر لإعادة كتابة العقد بينه وبين القارئ. فالقارئ يتغيّر، والمفاهيم نفسها تتغيّر قراءتها وتفسيرها وموقعها من حيث الأهمّية. فمفهوم الحرية، مثلاً، أو الكرامة، أو الديمقراطية، أو السلام، لم يعد هو نفسه عند الأفراد، وعند الجماعات. ومنذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، انقسم العالم العربي، مُعيداً النظر في قراءة الثورة: تعريف الثورة. أهداف الثورة. أشكال النضال الثوري.. ومن اللافت أن يقرأ الثورات يساريون يتبنّون الفكر ذاته، قراءات متعادية إلى حدّ القطيعة. وهي مواقف تهدّد بانهيار عَقْد القراءة حين يعتبر القارئُ الروائَّي، أو الباحث، أو المفكّر، عدوّه، أو حين يُخرج كلُّ واحد من هؤلاء قارئاً ما من عقوده الضمنية.

والخطر الذي يواجه عَقْد القراءة لم يعد كامناً في تعدّد القراءات، أي ليس في تفسير النصّ من موقع الاحترام والبحث عن المقولات الفكرية، ولا من موقع الخصومة، إذ إنّ الخصومات قد تسمح أحياناً بالحوار والنقد الموضوعي، بل من موقع العداء، والعمل على تشويه الموضوع، وتزوير الحقائق، أي إنَّ القراءة هنا مُعدّة لكتابة التقارير النقدية إذا ما تحدّثنا مجازاً، فالقرّاء من هذا الصنف يميلون إلى كتابة التقرير بمعناه الأمني الذي يقصد التحريض على الكاتب وعلى الموضوع، وينتمي إلى هذا الصنف هؤلاء الذين يحاولون اليوم مصالحة المشروع الصهيوني.

يُعيد جيلٌ كامل النظر في القيم والمبادئ الراسخة ويتمرّد عليها

وأكثر الجهات التي تفرط في عقد القراءة، أو تلغيه، أو لا تحترمه، بوصف قراءتهم واحدة من قراءات مُحتملة فقط، مرتبطة بالتعصّب وضيق الأفق، في السياسة، أو في الدين، أو في التقاليد.. والقارئ في هذه الحقول أحد اثنين: شخصٌ لا يقرأ النصّ بل المؤلّف، اعتماداً على معرفته بمواقفه وفكره، وقارئٌ يقرأ النصّ قاصداً اكتشاف المواضيع التي ينوي التشهير بها، وهو الذي يزوّد القرّاء الآخرين بالمعلومات المطلوبة لشنّ الهجمات على الكاتب والكتاب.

التمرّد الأهمّ في القراءة يحدث اليوم تجاه الحرب الصهيونية على غزّة. يُقرأ التاريخ من جديدٍ من قبل الشباب في العالَم، من مواقع جديدة. بل إنّ غزّة أضحت اليوم محوراً محرّكاً لاصطفاف الأفراد والجماعات فكرياً وسياسياً خلف قراءات متباينة. وبتنا نرى مجتمعات كاملة تعيد النظر في الرواية السابقة كلّها عن القضية، لتتبنّى رواية المضطهَد، وهو الفلسطيني هنا.
لا يبدو العقد القديم الذي ارتاحت إليه عقول المؤرّخين الداعمين للرواية الصهيونية مهدّداً بالحقيقة التي حاولوا إخفاءها طوال القرن الماضي، بل يعيد جيلٌ كامل النظر في القيم والمبادئ التي كانت تبدو راسخة، ليتمرّد عليها، ويستعيد القيمة الحقيقية لحياته.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون