تعالوا أمنحكم أصواتاً

02 أكتوبر 2021
مقطع من "النوبية" لـ فتحي حسن (مصر)، مواد مختلفة على ورق، 2019
+ الخط -

ثمةَ قولٌ شائعٌ بأنّ الكاتب يكتب تجربته، واعتَبر المُنظّر الأدبي الروسي ميخائيل باختين (1895-1975) الروايةَ صوتَ الراوي موزّعاً على الشخصيات، مشاغلهُ الشخصية موزعةً على الآخرين. ويُقرَأ رأي باختين كما لو أنّ الكتابة الروائية فعل تورية وإخفاء للذات وراءَ آخرين هم، بصورةٍ ما، مَحضُ أقنعة.

لا يسعُ الروائي أمام قول باختين، سوى أن يهزَّ رأسه موافقاً، وربما محرجاً من انكشاف حيلتهِ، ومن اتّضاحِ أمرٍ خالهُ سريّاً؛ ليجد أمره مكشوفاً، فسرّه مباح وحكايتهُ معلَنة. لكن يبقى لدى الروائي ما يسوّغ حيلته، فهو يقرأ ويتفاعل ويرى ويسمع، والأهم يعيش تجربتهُ بين الآخرين، ويتأثّر بهم وبحكاياتهم بهذا القدر أو ذاك. فالروائي يزعم، عندما يجلس إلى نفسهِ ويفكّر في الكتابة عن ذاته، يزعم أنّه لم يعد يجدها، بعدما أضاعها أو وزّعها على الآخرين وقد سكنتهُ قضاياهم وشُغِلَ بمشاغلهم. 

على هذا النحو، نفهم كتّاباً لم يستطيعوا تجاوز أزماتِ بلدانهم، ووجدنا روايات مليئة بأخبار القتل، في أوانِ القتل عينهِ، لا بعدما صارَ ذكرى أليمة. كما وجدنا رواياتٍ مليئة بصيحات الحرّية، في أوانِ الحرّية عينهِ، لا بعدما أسرتها قوى الواقع وأعادتها إلى الأقفاص.

وبذلك يمكن القارئ أن يفهم كاتباً ينهل من موتِ الآخرين فور حدوث الموت، ونجد روائياً لم يستطع فصل حكايته عمّا يدور حوله. فهو إذا ما وضعناه أمام مقولة باختين، وفي نقاشٍ مفتوحٍ معهُ، كأنّما يرفع التهمة التي أسبغها باختين عليهِ، إذ يعتبر الروائي ذاتَه أصداءً لذواتٍ كثيرة. 

لا يقوم النص الروائي الجيّد على صوت واحد بل على التعدّد

تفسّر مقولة باختين مسائل مرتبطة بالموضوع باعتبار السرد حاملاً للمعرفة. لكنها فنياً إذا ما قاربت مقولته عن الشعر - أصوات الآخرين غائبةً في صوتِ الشاعر - فهي تشرحُ مسألة تعدّد الأصوات في السرد، ووحدتها في القصيدة. أيّهما يظهر مسكوناً بذاتهِ، ذاك الذي لا يحتفي إلا بصوتهِ، أم ذلك الذي يحتفي بأصواتِ الآخرين، بينما يقصرُ نفسه على توريةِ صوتهِ؟ 

هذه قضايا تبدو شكلانيّة، لكن أبعد من ذلك؛ يبدو الروائي موظفاً لدى الآخرين، موظفٌ بدوامٍ مفتوح، يصيحُ على المارّة في حياتهِ: تعالوا، تعالوا كي أمنحكم أصواتاً. فيما يبدو الشاعر مغرّداً يمتصُّ أصوات الآخرين، يمتصُّ مشاغلهم وألمهم ليصنع ألحانهُ الذاتية وأمجاد لغته الصرفة.

الروائي يستثمر في الصمت، يهب من مساحتهِ مساحاتٍ للآخرين كي يُعبّروا. وفي ضوء ذلك، تُقرأ عبارة رائجة في أوساط الكتّاب الروائيين، بأنّهم صوت من لا يملك صوتاً، وقد شاع استخدام هذا القول في بلدانٍ معتمرة بالضحايا، أو عند الحديث عن قضايا مسكوتٍ عنها، مثل وضع المرأة في البيئات المُستَنقَعة حيثُ يُكرَّس واقع اضطهاد المرأة ويُمنَع الحديث فيه. هنا يتطوّع الروائي، كي يتحدّث بلسان الآخرين. وتطوّعه مسألة فنية بحتة، فالرواية فنيّاً، تتيحُ تعدّد الأصوات، لا بل تطلبهُ، ولا يقوم نصٌ روائي جيد على صوتٍ واحد منفرد. 

إذاً وراء ديموقراطية الفنّ الروائي يقف شرطٌ فني بحت، مرتبط بالصنعة الجيدة التي تُحتّم تورية الكاتب، واقتصار دورهِ على توزيع أدوار الآخرين، على تشييد الحبكة وبناء الحكاية التي تجمعُ أصواتاً من مشارب نفسية واجتماعية مختلفة، ومن منابت فكرية قد تكون منابِتَ متصارعة. 

لذلك نرى الرواية الجيدة قادرة على احتواء اليساري التحرّري مع الأصولي المتشدّد، من يحمل قيم الثورة مع من يحمل راية الطغيان. ووراء هذه الأصوات التي تكاد تفني بعضها لو تواجهت في الواقع، تتوارى عبقرية الرواية، التي وكّلت موظفاً يقتصر وجوده على إدارة ممكنات النّص، وقد جعلته صنعتهُ؛ متفانياً في إمحاء صوتهِ في أصواتِ الآخرين وفي أقنعتهم.


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون