- ديوانه العربي ينقسم لجزأين يغطيان موضوعات مثل الزمن وتأثيراته وتفاصيل الحياة، متميزًا بأسلوب يجمع بين الأصالة والتجديد والصور الشعرية المعبرة.
- الجزء الثاني يعبر عن واقع غزة تحت العدوان، مستخدمًا الشعر لنقل الألم والمعاناة والأمل، مقدمًا صورًا شعرية تلامس القلب وتعكس الواقع المؤلم.
مصعب أبو توهة، الشاعر الغزّي الذي ولد في عام 1992، لم يعد الآن في غزّة، رغم أنّه عاش في عدوانها شهوراً عديدة. إنّه يكتب شعراً باللغتين العربية والإنكليزية. مجموعته الأولى "أشياء قد تجدها مخبأة في أذني" صدرت بالإنكليزية. وها هي مجموعته الثانية "تستريح الأرض من كلامنا" تصدر عن "دار النهضة العربية"، وبالعربية هذه المرّة.
لم نقرأ المجموعة الإنكليزية، لكنَّ المجموعة العربية تُشعرنا منذ البدء بأنَّ الشاعر أصيل في لغتِه، متمرّس بلعبة الخيال ولعبة اللّغة، وبالتالي نحنُ أمامَ شاعرٍ له قصيدته، وله طريقته وأسلوبه. لا نعرف تماماً ما الذي دعاه إلى أن يقسّم مجموعته إلى جزأين، لكلٍّ منهما عنوانه الخاص.
أما الأول فهو "أيها الوقت، قف وانتظرني ريثما أطعم الماضي من ثمار اليوم". لن نلزم أشعار هذا الجزء، بالعنوان الذي يدل، في أغلب مفرداته، على الوقت، ماضيه وحاضره. لكنّنا مع ذلك لا نمتنع عن الشعور بأنَّ الزمن قد يكون حساسية الكثير من الأشعار والقصائد. لا نمتنع عن الشعور بأن الأشياء هنا مغمورةٌ بزمنها، وأنّها تتحوّل تحته وفيه.
قصائد تضعنا أمام لحظة سوداء، لحظة تسيل دماً وأحزاناً
"العاشرة بلا دقائق" تقول قصيدة، لكنّنا لا نزال في سواها نحسُّ بهذه الدقائق. نحس بأنّها هي التي تحرّك "هواءً ساخناً"، وهي التي تدخل مع الريح "من بين يدي النافذة"، وهي المرآة "التي تنظر إليك"، وهي التي "تستغربُ كيف أصبحت مرآة/ كما تستغرب أنت كيف أصبحتَ إنساناً/ من لا شيء". وهي "آثار فمي على الفنجان الأبيض"، وهي الوقت الذي "يركض إلى الوراء".
لا نزال نحس ونحن نقرأ "هبطت طائرةٌ على جدار غرفتي/ حطّت بثقلها على صورة جدي"، أو حين نقرأ في سياق مشابه "تحطُّ ذبابةٌ على أنفي/ تظنّه مهبط طائرات"، أنّ الصورة هنا تكاد تركّب لحظة ما، أنَّ غرابتها هي التي تشكّل هذه اللحظة، أو تتشكّل منها.
لكننا أيضاً ونحن نقرأ إلى جانب ذلك "يحلم أن يطير بالركاب في طائرة/ وهو لا يستطيع أن يسافر خارج عتمته/ ولو مشيّاً"، لا نستطيع أن نمتنع عن الشعور بأنَّ الطيران لا يتكرّر هنا عفواً، إنه يتحوّل إلى بؤرة كلامية، إلى مصدر تفاصيل تكاد تندرج في حكاية.
هذه الحكاية المُضمَرة، والتي تلوح من بعيدٍ، ونشعر بها تسيل من فكرةٍ أو حتّى لفظة، هي ما يجعل القصيدة، رغم توزّع صورها وتفاصيلها، رغم تفرّق مفرداتها، تبدو مُوحّدةً، بل يبدو لها إيقاعٌ واحد.
هكذا تصبح اللفظة الواحدة صنماً كلامياً، كما هو الأمر حين يعرض الشاعر لألفاظ بذاتها، كالبكاء أو الولادة أو الذبابة. ألفاظٌ تتولّد منها قصيدة كاملة، أو تتولّد منها حكايا خفيّة. هكذا يزاوج الكلام بين انزياحات الصور، وتشتّت الألفاظ، وتداعي الأخيلة، وبين نوع من فكرة واحدة، تتجلّى في إيقاع متكامل، وتنفرش على ما يشبه اللفظة، أو القطعة، أو الحكاية.
الجزء الثاني من الديوان هو الآخر ذو عنوان طويل: "الحفرة على الأرض تمخضت عن علاقة غير شرعية بين الرمل والقذيفة". هذا الجزء يكاد يختلف عن الأوّل، ويكاد يكون، بالنسبة له، غناء آخر وأطروحة أخرى.
ليست كلمة قذيفة هنا عفواً. ثمّة فيها، بل في العنوان كلّه، بل في مجمل القصائد تحت هذا العنوان، ما يردّنا إلى العدوان الجاري حاليّاً على غزّة. لا أعرف توقيت كتابتها، لكنّي شعرتُ وأنا أقرأها بأنَّ القصائد، في لمحاتها وسياقاتها ونفسها وتداعياتها، تردُّ إلى هذا العدوان. فحين يقول الشاعر "لم يسرقوا فقط بيتك/ بل الطريق إليه أيضاً" لا نبتعد عن العدوان الجاري، فهذان الشطران قد يكونان عنواناً له.
وحين نقرأ "بلادي تضيق بنا" و"طالت أظافرنا لنحفر قبورنا تحت شجرة السنديان" فنحن هنا في ما يكاد يبدو كلاماً مباشراً عن الكارثة الراهنة. وحين نقرأ "الحزن هو ساعي البريد الوحيد/ يكاد يمرّ على كل منزل" و"في الحرب تحتاج أن تبدل ملابسك في كل جنازة تخرج فيها"، نحن هكذا حيال إشارات صريحة، بل ومباشرة، للمأساة الغزّية. إشاراتٌ صريحة، بل وتفاصيل تكاد تكون أخباراً، بل نعياً مباشراً.
وحين نقرأ "يأتي دوري لأفتح حقيبة صديقي المفقود/ فأجد صورته قد ذابت من الألوان"، لسنا فقط في هذا الجزء أمام الزمن، نحن أمام لحظة سوداء منه، لحظة تسيل دماً وأحزاناً وفقدانات. الشعر هنا يكاد أن يكون تماساً مع الواقع، يكاد يكون صوته ووثيقته ونعيه البعيد.
* شاعر وروائي من لبنان