في المبدأ، يكتب الروائي مقتفياً أثراً ما، سواء في حياته الشخصيّة أو زمنه كَكُلّ، مع البشر الذين عاصر تجاربهم وشهد مآثرهم وأزماتهم، ومع حاضر المدن التي عرفها أو ماضيها. وباستخدام الكتابة، يترك الروائي أثراً آخر عبر الشخصيات التي صنعها من آثار الآخرين.
بهذا المعنى، يكون الفنّ لدى الروائي الذي يلاحقُ آثار البشر والمدن كي يترك آثاراً لبشرٍ ومدن من صناعته، أشبه بالصياغة الجديدة التي تمثّل أداء الفنّ ضمن أمثولةٍ تغيّر طبيعة الأشياء. فالمدن التي تهدّمت تحت القصف، هي مدن ما تزال حيّة في روايات الكتّاب الذين شهدوا عمرانها، أو في الروايات التاريخيّة. والناس الذي قُتلوا جرّاء الحرب نراهم أحياءً وحالمين في روايات كتّابٍ وثّقوا حياة والقصص العاطفية لأولئك الذين صاروا موتى، ولكلّ الآمال التي أهرقها القتل.
إذاً، تَصنَع الرواية ممّا هو زائل، ما هو أبدي وقابل لإعادة القراءة. وبالتالي إعادة الخلق مع كلّ قراءة، فكُلّ قراءة حياة جديدة بصورة من الصور. وعلى ضوء هذا، يأخذ الروائيون بصورة عامة جانب المهزومين، لأنّ المهزومين فقدوا آثارهم. وفي داخل الروائي سعي إلى إعادة تشييد تلك الآثار أو ترميمها. فالكتابة وعيٌ بالزائل، وسعيٌ إلى توثيقه، ويمكن تشبيه هذه الآلية بفنّ التقاط الصورة، لكنها في الرواية لا تكون صورةً فحسب، بل تكون ما يَشفُّ عن الصورة.
يرمّم الروائي ذوات وأمكنة انتُزعت منها الحياة عنوة
بمقاربة فنّ التصوير الفوتوغرافيّ مع الكتابة الروائية يمكن أن تكون الصور الفوتوغرافيّة من أكثر العناصر التي تلهم الروائي وتستدعي تأمّله، لارتباطها مع محاولات البشر إيقاف الزمن عند لحظة محدّدة. فإذا كانت صورة لعائلة في المطار، ستتفتّح مخيّلة الروائي على الأسفار التي باعدت أفراد العائلة، وعلى البيوت التي تركوها وراءهم، والبلاد التي يذهبون إليها. وإن كانت صورة عائليّة فيها أطفال، ستتفتّح مخيّلة الروائي على الظروف التي أُخذت فيها اللقطة، والظروف التي سوف يكبر فيها الأبناء. وإن كانت صورة عاشقَين، ستتفتّح مخيّلة الروائي على الألفة التي تظهر بينهما، أو على تباعدهم الذي تلا التقاط الصورة. كما أنّ الصورة العائليّة قبل الحرب، تختلف عن تلك التي تؤخَذ على عُجالة الحرب، أو بعدها. وأمام كلّ صورة ينشأ احتمال مختلف كلّياً، احتمال جديد يتّسق مع ما يأتي بهِ الزمن الذين يمضي دائماً. بالتالي، ينشغل الروائي بالزمن نفسه، وبالآثار التي يحدثها وبما يكشفه من أسرار.
وفي الحياة نفسها لا ينشغل الروائي بما يراه من مشاهد الحياة، بقدر ما يشغله ما يشفّ عن المشهد، وما يشيرُ إليهِ، وما يثيره في مخيّلتهِ التي ستنشغل في صياغة الاحتمالات الكثيرة. فمشهد عائلة حاكمة في مدن مدمّرة على سبيل المثال، يختلف عن مشهد عائلة مسحوقة من الطبقة الوسطى أو الفقيرة تحاول النجاة.
لنتأمّل الآن روائيّاً سوريّاً يعود إلى بلدته بعد عشر سنوات من الحرب والاقتتال، ويجد منزله مدمّراً ومكتبته منهوبةً، ثمّ يجد بين الردم صورةً تعود إلى طفولتهِ. بالنسبة إليهِ سيكون اللحاق بالآثار التي أحدثها الزمن، زمن الاقتتال والفقد، بذاته حدثاً ملهماً يدفع بهِ إلى التفكير بترميم تلك الخسارات وإعادة تشييد ما فقده. والكتابة هنا، تنجز ذلك التغيير في طبيعة الأشياء. فالجدران التي تهدّمت تعود جدراناً من كلمات، يسكن فيها بشرٌ من كلمات. لكنّهم، بصورةٍ ما، بشرٌ حقيقيون. لأنّ الحرب فصمت مصائرهم عنوةً ومن غير ترتيب مُسبَق. ثمّ جاءهم فنّ الرواية، وأعاد ترتيب تلك الحياة العادية المُنْتَزعة عنوةً. والكتابة هنا أشبه بالعودة في الزمن. لكنها عودةٌ لترتيب الرحيل، وإتاحة الوقت للعائلة كي تلملم مصائرها في بلاد أخرى.
* روائي من سورية