تراجع السياسي أم كساد الفنّي؟

17 مارس 2023
خلال تظاهرة في ميدان التحرير بالقاهرة، 2012 (Getty)
+ الخط -

ارتبط مفهوم السياسي بالتعبيرات الأدبية والفنية مثل الرواية السياسية، والشعر السياسي، والأغنية السياسية، والمسرح السياسي، في مرحلة اتّسمت بجمود السياسة، وانعدام الثقة بها وبالسياسيين في المنطقة العربية. إذ واجهت العقود الأخيرة من القرن الماضي انتشاراً واسعاً للمفهوم، وكذلك للإنتاج الأدبي والفني الذي رافق صعوده. واللافت أن تلك المرحلة لم تشهد أي نهوض شعبي أو جماهيري، فلا احتجاجات، ولا انتفاضات، ولا ثورات، بل أشعار فصحى وعامية سياسية، وأغنيات سياسية.

ومَن يتذكّر تلك السنوات، يعرف أن الرواج الذي شهدته الأغنية السياسية مثلاً، في الحفلات الجماهيرية الكبيرة، التي كانت تقام في القاعات، والصالات الرياضية، وخاصة في سورية، والعراق، ولبنان، قد وازاه في السوق رَواجٌ لأشرطة الكاسيت، والسي دي من بعده، حيث باع بعض المغنّين وتجار الرواج، مئات آلاف التسجيلات لشبّان وشابّات حفظوا أغانيهم، وغنُّوها، وتحوّل بعضهم إلى مشاهير ونجوم، أو أيقونات محبوبة توضع صورهم في قلادات، ويمنع عنهم النقد.

تبدو الآن تلك الأنواع وكأنما كانت تلبّي حاجة جيلٍ وَجد نفسه في فراغ سياسي، أو في مواجهة فشل وهزيمة جميع المشاريع السياسية الناشطة على ساحات النضال؛ ولهذا بدت الأغنية، وهي التي تستطيع أن تُخاطب شرائح وفئات واسعة بأدوات الترويج السهلة مثل الكاسيت والسي دي، قادرة على جذب هؤلاء، عبر وجبة دسمة من الشعر السياسي الفصيح والعامي الذي يمجّد الكفاح والثورة والقضية الفلسطينية. وبهذا المعنى يمكن اعتبار تلك الأشكال من التعبير ردّاً على تغييب السياسة، ودحرها، من قبل الأنظمة والأحزاب التي احتكرتها بالقوة.

أغلب الأشكال الأدبية والفنية عجزت عن مجاراة الثورات العربية

غير أن كلّ تلك الأشكال الأدبية والفنية عجزت عن مجاراة الثورات العربية حين بدأ النهوض الجماهيري بالفعل، وبدا كأن الجمهور الثائر لم يعد محتاجاً للتعبير الأدبي والفني السياسيَّين حين بدأ هو يخوض في السياسة. بل إن الشعب الذي أراد الكثير من المطالب، لم يردّد الأغاني التي ردّدها، وغنّاها، واحتفى بها قبل عقدين من الزمن.

وفي المقابل، لم يشارك الشعر السياسي في نهضة الشعب، بل ظهر بعض الشعراء وبعض الروائيين وبعض المغنّين المشهورين في حالة صدمة، بينما لم تكن الأغاني القليلة التي رافقت الثورات كافية، ولا تشكّل ظاهرة، وبدا كأن جمهور الثورات، هو جمهور آخر، لا يعرف ما غنّى له المغنّون، وتلقّفه الجمهور الآخر، وردّده من قبل. كأن الأغنية السياسية مثلاً أدت دوراً تحريضياً لجيل آخر، وحين بدأت الاستجابة، استقالت واختفت.

فهل كان مفهوم "السياسي" في الشعر والرواية والأغنية تعبيراً عن حاجة فكرية وفنية، أم كان مستعاراً من الخارج؟ حسناً ولكن الأغنية والشعر والرواية كانت عربية، وكذلك كان الجمهور في الحالتين، أي في حالة الرواج، وفي حالة الكساد والتراجع، عربياً؛ والسؤال الآخر الشاغل هو لماذا؟ أين أخفقت كلّ هذه الأشكال؟ هل أخفق السياسي (والحقيقة أن تعداد الإخفاقات السياسية العربية ليس له حدود) أم أخفق الفني؟ وهو ما يُحيج إلى دراسة موضع الكساد والتراجع في كلّ أشكال الإبداع العربي. 


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون